أدار معركة«الحرم» وأخفى تعرُّضه لإطلاق النار عن جنوده
بالأمس عم الحزن جميع أرجاء الوطن، ولف السواد كل الأماكن، برحيل معلم كبير وقائد فذ، أحبه أبناء شعبه من أعماقهم، أحبوا تلك الابتسامة التي لم تفارق محياه حتى وفاته، وأحبوا تلك اليد التي امتدت لكل مناحي الخير داخل الوطن وخارجه، تلك اليد التي طالت كل صغير وكبير.
يسمع الناس قصصا شتى عن هذا الأمير ويتداولون منذ رحيله كثيرا من مقاطع الفيديو والصور الخاصة التي تبين إنسانيته، وقيادته وحكمته.
لكن هناك كثير من القصص التي تغيب عن أذهان الناس ويحتفظ بها المقربون من سلطان الخير وممن تعلموا في مدرسته وهم كثر.
الأمير سلطان كان يهوى رحلات القنص والصيد بالصقور ويبدو في إحدى زياراته الخارجية يشاهد أحد الصقور.
لم أكن أعرف أكثر مما يعرف أبناء هذا الشعب عن تلك القامة، عن سلطان الذي أبصرنا ونحن نراه شامخا معطاء أمامنا، حتى التقيت أحد المقربين منه والملازمين له منذ نعومة أظفاره لينهل من المدرسة السلطانية ويتعلم منها.
كان الزمان في عام 2006 والمكان في عرقة في الرياض، حيث يسكن الأمير فيصل بن سعود بن محمد، كنت مكلفا بإجراء لقاء صحافي عن سلطان بن عبد العزيز، وتوقعت في وقتها ألاّ يتجاوز وجودي في منزل الأمير فيصل بن سعود سوى ساعتين أنهي فيهما المهمة التي أتيت من أجلها، وأعود سريعا لمتابعة عملي.
وصلت منزله في الثامنة مساء وامتدت الساعتان حتى الثالثة صباحا، عكس ما كنت أخطط له وأطمح إليه، أما لماذا، فلأن الحديث كان عن سلطان بن عبد العزيز.
كانت تلك الزيارة الأولى لي للأمير فيصل بن سعود والمرة الأولى التي ألتقيه، فوجدت فيه تلك الثقافة والبلاغة التي سهلت لي مهمة الحوار ونشره، ولكني وجدت فيه أيضا قوة في الذاكرة وغزارة في المعلومات ما صعب المهمة حتى إني لما خرجت من منزله كنت أحس بأن مهمتي لم تنتهِ ومتيقنا أن هناك مزيدا للحديث عن سلطان بن عبد العزيز، لكن لا الوقت يسعف ولا مساحات النشر تكفي.
في وقتها عندما هممت بتفريغ تلك المادة الصحافية توقفت ليومين متتاليين حائرا من أين أبدا وكيف أستطيع أن أجمع كل هذه المعلومات والمواقف والأحاديث بما يكفي لمساحة النشر المخصصة، عندها قررت أن يكون الحوار مختلفا وأن تكون القصص والمواقف التي ذكرها لي الأمير فيصل بن سعود هي المعبرة عن شخصية ولي العهد في كل المجالات، في الحكمة والإدارة، الكرم والشجاعة، التواضع والابتسامة، وغيرها من صفات ذلك الرجل العظيم.
ورغم أني استجمعت أفكاري وقتها وحددت طريقة سرد ذلك الحديث إلا أني احترت أيضا من أي المواقف أبدأ، فما سمعته عن هذا الرجل يصيبك بالدهشة حتى يخيل لك أنك تسمع عن رجل من زمن الأساطير، لكنها دهشة سرعان ما تتبدد لأنك تسمع عن سلطان الأسطورة الإنسانية الحية في ذلك الوقت، والتي فقدناها بالأمس.
حنكة إدارية وسياسية وتحقيق للعدالة
يروي الأمير فيصل بن سعود كثيرا من القصص عن الحنكة الإدارية والعدالة لدى الأمير سلطان بن عبد العزيز، وفي إحداها يقول الأمير فيصل بن سعود: كان الأمير سلطان بن عبد العزيز يتولى شؤون البلاد بتكليف من الملك فهد – رحمه الله – حيث كان الملك يقضي إجازته السنوية، بينما كان خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله ولي العهد في ذلك الوقت يقوم بزيارة رسمية لإحدى الدول، وكنت أجلس بجواره وهو يطلع على بعض الأمور والبرقيات الموجهة للملك ومعاملات تخص الدولة، وفجأة شاهدته يبتسم، فسألته عن سر تلك الابتسامة، فقال الأمير سلطان: ‘هذه برقية موجهة للملك من أحد المواطنين في الدلم بالقرب من الخرج يشكوني فيها لتعدي أحد وكلائي على أملاكه كما يدعي’، يقول الأمير فيصل فوجئت بهذا الأمر واستغربت أن يبتسم الأمير ولكن المفاجأة الكبرى حين كتب على برقية المواطن الذي يشكوه رسالة إلى الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض التي تتبع لها الدلم بما نصه: الأخ سلمان، يتم إحضار وكيلنا للمحكمة، وما يقرره الشرع ينفذ لنا أم علينا’.
حين روى الأمير فيصل بن سعود تلك القصة لي قال في وقتها: لا تستغرب من حفظي نص الرسالة كما هي رغم مرور وقت طويل، لأنه لم يكن موقفا عاديا فهو تجسيد للعدالة الحقة، كان بمقدور الأمير سلطان أن يتجاهل شكوى المواطن وهو من يحكم البلاد وقتها، ولكن العدالة داخله أكبر من ملك وحكم.
ويروي الأمير فيصل بن سعود قصة أخرى للأمير سلطان في تلك الفترة التي حكم فيها البلاد بتكليف من الملك فهد، ويقول: كان الأمير سلطان قد تقدم بطلب لصالح وزارة الدفاع ورفع بذلك برقية للملك فهد، وحين تولى الأمر لم يكن الملك فهد قد بت في برقية الأمير سلطان وعلى الرغم من صلاحياته الممنوحة له بإدارة شؤون البلاد إلا أنه رفض ذلك الطلب، وحين سألته: كيف ترفض طلبا أنت من تقدم به؟ قال: يا فيصل أنا كنت أنظر بعين الوزير والآن أنظر بعين ملك، فهناك ما هو أهم من طلبي.
يتحدث الأمير فيصل بن سعود بإعجاب عن شخصية الأمير سلطان بن عبد العزيز فيقول: الأمير سلطان يبدي رأيه بشجاعة لا نظير لها ولكن شجاعته هذه تتحول إلى منحى آخر حين يقرر المسؤول الأعلى منه قرارا يخالف رأيه، فحين يكون هناك أمر من أمور الدولة تجد الأمير سلطان لا يتحفظ في إبداء رأيه حتى للملك ولو كان رأيه مخالفا لرأي الملك، لكن عندما يعمل الملك برأي مخالف لرأي الأمير سلطان تجده أكثر المتحمسين لهذا القرار حتى تعتقد أنه قراره أو أن القرار يتفق معه، وهذا درس يقدمه الأمير سلطان في مفهوم الإدارة والعمل الإداري لا تجد له نظيرا حتى في أرقى الجامعات.
أما على مستوى إدارة الملفات السياسية فيقول الأمير فيصل بن سعود: الأمير سلطان رجل محنك، خاض في معترك السياسة حتى أضحى أحد أفضل المحنكين سياسياً في العالم من وجهة نظري، رجل يسخر حنكته السياسية لما فيه خير بلده وأمته.
وما زلت أتذكر موقفاً سياسياً له حين أجرى العملية الجراحية في ركبته في أمريكا في معمعة الأزمة التي كادت تنشب بين السعودية وأمريكا بسبب الصواريخ الصينية التي اشترتها السعودية، وتحرك اللوبي الصهيوني في أمريكا لتعطيل تلك الصفقة، مؤكدين أنها تحمل رؤوسا غير تقليدية، حينها زار نائب وزير الدفاع الأمريكي الأسبق أرميتاج الأمير سلطان في المستشفى، وخلال المحادثات طلب من الأمير أن يسمح للمفتشين الأمريكيين بأن يفتشوا الصواريخ في السعودية للتأكد من أنها لا تحمل رؤوساً غير تقليدية، مخبراً إياه بأن الكونجرس الأمريكي يرى فيها تهديداً لأمن المنطقة، وتحديداً إسرائيل، وبالطبع كان موقف السعودية الرفض لهذا الطلب المتكرر، حينها أجابه الأمير سلطان بالموافقة، وقال لسفير السعودية لدى واشنطن الأمير بندر بن سلطان في ذلك الوقت: (قل له: لا مانع لدينا)، فدهش الأمير بندر من إجابة والده، وسكت، لأن في ذلك تغييرا لموقف السعودية الرافض لهذا التفتيش الذي يمس سيادتها، فقال الأمير سلطان بحزم انقل له إجابتي حرفياً، فنقلها الأمير بندر، وتهللت أسارير نائب وزير الدفاع الأمريكي بهذا الجواب، لكن الأمير سلطان فاجأه بقوله: ‘قل له يا بندر أن ذلك سيتم بشرط واحد، فوافق أرميتاج من دون تردد، وقال: (ليشترط الأمير)، فهم كانوا مستعدين لأي شيء مقابل أن يفتشوا الصواريخ الصينية، فقال الأمير سلطان: (يجب أن يضم الوفد الذي يريد التفتيش عضواً إسرائيلياً، وآخر سعودياً، ومفتشين أمريكيين، وقبل أن يمر الوفد على السعودية لتفتيش الصواريخ الصينية، يمر في طريقه على إسرائيل، ويرى هل لديهم أسلحة غير تقليدية).
عندها قال نائب وزير الدفاع الأمريكي: لا نستطيع، فهم (الإسرائيليون) يرفضون ذلك، فرد عليه الأمير سلطان بقوله: (كيف إذن تطلبون تفتيش أسلحتنا التي اشتريناها بمالنا، ولم يكن لكم فضل فيها، ولا تطلبون من الإسرائيليين ذلك، وهم الذين يشترونها بدعمكم وأموالكم).
عندها عجز أرميتاج عن الكلام أمام حنكة ودهاء سلطان. ليست تلك المواقف هي الوحيدة في رحلة الفقيد الراحل السياسية والإدارية، ولكنها قصص قصيرة توضح عبقرية الرجل وذكاءه وحنكته.
شجاعة وثبات في المواقف
من يشاهد محيا الأمير سلطان ينعكس له انطباع أولي مؤكد بقلب طيب يتسع للجميع من خلال تلك الابتسامة التي لم تفارقه طوال حياته، إلا أن هناك عديدا من المواقف والقصص التي غابت فيها تلك الابتسامة وتبدلت فيها ملامح سلطان الخير، على عكس ما عرف عنه.
وهنا يذكر الأمير فيصل بن سعود قصة للفقيد الراحل كان فيها في قمة غضبه، فيقول: لم أشاهد الأمير سلطان غاضباً كما شاهدته حين حادثة احتلال الحرم المكي الشريف، من قبل جماعة جهيمان.
ففي تلك الحادثة الشهيرة، كان الأمير سلطان يقود العملية التحريرية، للقضاء على تلك الفئة وتنظيف المسجد الحرام من دنسهم، وفي تلك المعركة، وأنا هنا أسميها معركة لأنها أصعب حتى من المعارك العادية، فلا المكان ساحة للحرب، ولا تستطيع أن تستخدم كل إمكاناتك، بسبب قدسية المكان لجميع المسلمين، حينها أثبت الأمير سلطان وسط غضبه العارم أنه رجل ثابت ثبات الجبال، فمن خطبته الشهيرة لجنوده داخل ساحة الحرم ووسط المخاطر، حيث كان الإرهابيون يحتلون ‘البدروم’، ويتحصنون فيه إلى حادثة قد لا يعلمها كثير من الناس، وهي أن الأمير سلطان كان يسكن في فندق شبرا، مقابل الحرم، ويقود العمليات من هناك، وبينما هو في غرفته واقفاً فإذا بقناص من الإرهابيين يطلق النار على نافذة غرفة الأمير سلطان، ويستقر الرصاص في جدران الغرفة من دون أن يمس ولي العهد الأذى، فما كان من أحد المسؤولين عن خدمة الأمير، إلا أن حاول الصراخ، ليمسكه الأمير سلطان، ويقول له بلهجة حادة كما رواها لنا الشخص نفسه: (أقسم بالله لن تفلت مني لو خرج هذا الأمر من هذه الغرفة).
ويتابع الأمير فيصل بن سعود بقوله: هذه الحادثة تدل على شجاعة كبيرة للأمير سلطان وسط المخاطر وحكمة، فلم يشأ أن يقلق جنده، أو يستغل أحد هذا الأمر بوصول رصاص العدو إلى غرفته، وواصل قيادة المعركة من الغرفة نفسها، حيث نام لياليه اللاحقة فيها، حتى انتهاء المعركة من دون أن يتنبه أحد لما جرى.
وحين سألت الأمير فيصل في ذلك العام عن كيفية تعامل الأمير سلطان بن عبد العزيز مع أصحابه ومرافقيه والعاملين معه قال – أبلغ تعليق على تعامل الأمير سلطان مع أصحابه، كان للملك خالد – رحمه الله ، حيث قال في هذا الشأن، ‘الكل يحسب أنه الأغلى عند سلطان’، وبذلك يشير إلى أنه من حسن تعامله مع أصحابه ودماثة خلقه، يعتقد كل فرد منهم أنه الأقرب إلى قلبه.
ويشير الأمير فيصل بن سعود إلى قصة طريفة للأمير سلطان بن عبد العزيز وكيف تدل على حسن تعامله مع العاملين معه والتماس العذر لهم متى أخطأوا، حيث كان الأمير سلطان خارجا من الديوان الملكي مع الملك فهد – رحمه الله – ويحدثه في شأن من شؤون الدولة، فقال له الملك وهما واقفان أمام السيارة: ‘لماذا لا تركب معي ونناقش الأمر في الطريق؟’، فرافق الأمير سلطان الملك في سيارته وكان يعتقد أن سيارته ومرافقيه سيتبعونه، إلا أنهم ظلوا ينتظرون خروجه، ويعتقدون أنه لا يزال في الديوان، وحين انتهى النقاش بين الملك فهد والأمير سلطان، كانا في طريق الأمير تركي بن عبد العزيز الأول، فقال الملك للأمير سلطان: ألا تذهب معي إلى منزلي، فاعتذر الأمير سلطان بلباقة، وقال: سأذهب لزيارة مريض في مستشفى الملك فيصل التخصصي، فاعذرني وأنزلني هنا، فأمر الملك سائقه بأن يتوقف، وترجل الأمير سلطان على رصيف الشارع، وأشار إلى موكب الملك بالتحرك بسرعة، معتقداً أن سيارته ومرافقيه خلف موكب الملك، لكنه فوجئ بألا وجود لسيارته، فمشى على الرصيف، لعلهم يأتون، ولكن ذلك لم يحصل، وعندها مرت بجواره سيارة ‘وانيت داتسون’، فأشار الأمير بيده له ليتوقف، وفعلاً توقف صاحب السيارة، وركب معه الأمير سلطان، وحين أغلق باب السيارة التفت صاحبها إلى من ركب معه، ففوجئ بأنه الأمير سلطان، وتملكه الخوف، فقال الأمير سلطان: لا تخف ولا تستغرب يا ولدي، أبيك توصلني لمستشفى التخصصي، وفعلاً أوصله، وحين جاء عند بوابة المستشفى، فوجئ حراس بوابة الدخول بمقدم الأمير سلطان في سيارة ‘داتسون’، ودخل الأمير وزار المريض، ومن غرفة المريض اتصل بسائقه وأخبره بأن يأتي ليأخذه من المستشفى.
ويصف الأمير فيصل بن سعود ذلك الموقف بأطرف المواقف للأمير سلطان، وأكثرها إحراجاً، ومع ذلك لم يغضب من سائقه ومرافقيه، بل التمس لهم العذر لأنه لم يبلغهم بمرافقته الملك في سيارته.
رحمك الله أبا خالد، فقد كنت مدرسة في كل المجالات، وما زالت ذاكرة المقربين منك تحمل كثيرا من القصص والعبر في حياة رجل عظيم تخرج في مدرسته آلاف ممن عملوا معه ورافقوه.