رقيم ودهاق أوطاننا العربية (2-3) أوائل الروايات العربية سطرتها أوجاع الحضارم
كما أن «الإيمان يمان والحكمة يمانية»، فإن الشعر يمانٍ أيضًا, في اليمن نبوءةٌ شعريةٌ نقباؤها جيلٌ صاعدٌ من الشباب إلى جانب جيل من كهول حِمير وسبأ وكهلان, في اليمن ثورةٌ شعريةٌ حقيقية يقود زمامها جن عبقر اليمنيون, القصيدة في اليمن تبلغ قبل أوانها وتنضج حتى في غير مواسمها. في هذا الجزء نرعى الشعر ونغترفه شفاهًا ونديم كأس الغربة مع الحضارم في أندونوسيا وعلى وقع خطى مغترباتهم المشرقية والمغربية نعترق كخفيفة الظل وكخفة دم اليمني وجمال روحه المستطابة.
ينقلنا الشاعر إبراهيم طلحة في فضاءات الشعر اليمان ويترك لنا الخيارات التأملية بمذاقات نكهة المناهل الشعرية المستطابة يتهادى طربًا وهو يقول: إن شئت فاطرب مع يحيى الحمّادي، أو مع معاذ الجنيد، أومع عبدالمجيد التركي، أو مع فؤاد المحنبي، أو مع عمار الزريقي، أو مع زين العابدين الضبيبي، أو مع محمد القعود، أو مع شاعرات اليمن الفارهات كأجمل القصائد نبيلة الشيخ ومليحة الأسعدي وسبأ عباد وسمر الرميمة وفرح علي وإيمان العذري، والقائمة تطول.. نعم، مؤكدًا على أن الشعر في اليمن يكاد يكون إحدى العادات والتقاليد اليمنية الأصيلة، كالزّيّ الشّعبي اليمني الجميل المتمثل في الثوب والشال والجنبية، ما يعكس الهُويّة العروبية لشعب اليمن، حيث المهد الأول للعرب. هذا الشعب استطاع أن يجاري بأصالته موجات الحداثة وأشكال الحضارة، وأن يثبت أن الشعر يمانٍ، كالفقه والإيمان والحكمة.
القصيدة في اليمن أرض وحرب وحب
وأوضح «طلحة» نلاحظ أن السّمات الفنية والمعنوية واضحة في شعر الشباب في اليمن، فالقصيدة الشبابية اليمنية قد تتحدث عن الأرض والإنسان، أو عن الحب والحرب، أو عن الغربتين الداخلية والخارجية، أو عن الثورة والحرية، كل ذلك بلمسات فنية مُشْبَعةٍ بلغةٍ حساسة مرهفة خفيفة الظل كخفة دم اليمني وجمال روحه ونقائها. فمنذ عصر امرئ القيس إلى عصر الواتس والفيس والشعر يمانٍ. إذًا.. الشعر يرتدي بردةً يمانية.
جذور التجربة الشعرية الراهنة في اليمن
حينما نتأمل الحركة الشعرية الجديدة في اليمن يمكن القول إن هذه الحركة تستند إلى جذور ثقافية عميقة في تكوينها البنيوي فالحركة الشعرية الجديدة هي حلقة من حلقات حركة التجديد ضمن عملية تراكمية عميقة تمتد إلى المدرسة الفكرية اليمنية التي تأسست على يد ابن الأمير الصنعاني، والمقبلي، وابن الوزير، والشوكاني، وأضرابهم، ودعت إلى الاجتهاد ونبذ التقليد، وأسست لفكر التنوير الثقافي على المستوى الفقهي والفكري والإبداعي.
أستاذ الأدب والنقد بجامعتي إب والملك خالد الدكتور عبدالحميد الحسامي كشف أن هناك حلقة مهمة تتمثل في حركة التجديد لدى رواد أمثال الزبيري والوريث والنعمان والموشكي ومحمد عبده غانم ولطفي جعفر أمان ولقمان وغيرهم ممن تخصبت أفكارهم ورؤاهم بالمدرسة التجديدية الفكرية اليمنية التي أشرنا إليها سابقًا، وما اكتنزت به اللحظة الزمنية التي عاشوا فيها والمناخ المتجدد لدى المفكرين من ناحية مثل الأفغاني والكواكبي ومحمد عبده, ومن ناحية ثانية المناخ الأدبي الإبداعي الذي تمثل بإنجازات رواد التجديد في مصر وحركات التجديد في الشام والعراق؛ فقد كان هناك تخاصب وتفاعل مع هذا السياق الإبداعي والمزاج الثقافي العام من قبل رواد الحركة الثقافية اليمنية المتعطشين لكل جديد في الفكر والأدب والحياة، وفي ذلك يقول الزبيري- مثلا-: « كانت طليعة الشباب الأحرار اليمنيين قبل الحرب العالمية (الثانية)، وأثناءها يقتحمون بأفكارهم الشابة المتفتحة عالماً ضخماً معقداً جديداً عليهم، مليئاً بالألغاز، والاحتمالات والمتاهات، هم ينتمون ببيئتهم، وأسرهم، ومجتمعهم، وعواملهم الوراثية، ودولتهم إلى ما قبل خمسمائة عام أو تزيد.
الشعر الجسر الذي عبر من فوقه الإنسان اليمني
-ويستدرك «الحسامي»- لكن: كتب عليهم أن يفتحوا أعينهم على عصر آخر غير العصر الذي ينتمون إليه، وأن يكونوا جسراً يعبر الشعب عليه، ويقطع مسافة قرون طويلة؛ وتلك رسالة من أصعب الرسالات التي يتحملها جيل من الأجيال . ويضيف: إن هذا الجيل المخضرم لا يستطيع أن ينهض بالعبء إلا إذا نجح في أمور ثلاثة : أن ينضج فهمه، وانتماؤه لروح شعبه، وروح العصر القديم الذي ينتمي إليه شعبه نضجاً تاماً. و أن يتغلغل فهمه إلى روح الحضارة الحديثة لا أن يعيش على السطح منها. وكذلك أن تكون عنده نزعة روحية ترتفع به فوق مستوى أهوائه الذاتية، ومنافعه المادية، لكي تكون هذه النزعة بالنسبة إليه كمحطة للفضاء التي يراد لها أن تكون مرحلة بين الأرض والقمر.
ويختتم: إن المنجز الإبداعي لرواد التجديد في اليمن في مرحلة ما بعد ثورة سبتمبر 1962م، وثورة أكتوبر 1963م هذه الحركة التي حملت على عاتقها مسؤولية التجديد يأتي في مقدمة تيارها المقالح والبردوني اللذين كانا أكثر شعراء اليمن تأثيرًا في ذائقة الجيل الجديد الذي أخذ يستند على تجربتيهما.
الريادة والأدب المهجري المفقود !
القاص والروائي سامي الشاطبي انتقد بشكل مباشر وصريح تضييع الهوية على الدارسين الباحثين في تحديد أسبقية الريادة الأدبية بين اليمن ومصر على مستوى الوطن العربي وقال «الشاطبي» إذا لم نتمكن على أقل تقدير من إثبات أن الجزيرة العربية خاصة في جزئها الجنوبي رائدة بالفعل في مجال الرواية على مستوى الوطن العربي، وأن تلك الريادة تتطلب منا أن نعطيها حقها كما أعطتنا المعرفة، فإننا قد أعلنا رسميا إفلاسنا الأدبي وأصبحنا مجرد ماض يصلح للتوثيق في وصمة تبقى إلى الأبد. إن أكثر من (25) دارساً يمنياً نالوا طيلة الـ30 عاما الماضية درجة الـ(د) عن رسالات أعدوها في مجال الرواية اليمنية والضربة القاصمة التي وجّهها هؤلاء أنهم قضوا سنوات إعداد الرسالة مبددين الكثير من الأموال المخصصة للتعليم والثقافة بهدف إثبات التاريخ غير الحقيقي للرواية اليمنية!.
وأضاف في تلك النقطة: لم يستطع – مع الأسف – هؤلاء إثبات أن أول رواية يمنية صدرت كانت في العام 1927م، أي قبل 90 عاماً، وليس كما ذهبوا – كما سيتضح- إلى أن أول رواية يمنية صدرت في العام 1939م، أي قبل سبعة عقود ونيف وهي رواية «سعيد» لمحمد لقمان في محنة قاسية لم يمسح عنها وجه البلاء سوى عدد من البحّاث الشباب.
وتابع: إن الزعم بأن رواية «سعيد» هي أول رواية يمنية وأن تعددت الحجج والدلائل خدعة انطلت ليس على اليمن فحسب، بل على الجزيرة العربية خسرنا بسبب تمريرها كحقيقة مسلمة على عدة مرتكزات. لقد خسر الجزء الجنوبي من الجزيرة العربية حقه في الريادة العربية بتراجعه خطوة إلى الخلف لحساب مصر التي تفاخر بأنها صاحبة الريادة, كما خسرت اليمن كاتباً يمنياً رائداً، بذنب أنه من المهاجرين وأن روايته صدرت في بلد المهجر «إندونوسيا» وبالتالي لا يمكن إدراجها ضمن (الببلوجرافيا) الرواية اليمنية. لوحدها تلك الخسارة تنم عن ضعف وعينا تجاه أهمية التوثيق في صون روايته وإدراجها ضمن الببلوجرافيا اليمنية. لقد كانت ستمثل مرتكزاً وقاعدة انطلاقة حقيقية لكتاب الرواية لتأصيل نتاجهم الروائي. وهنا لابد من الاعتراف بأننا تركنا أجيالاً عدة تتخرج طيلة ثلاثة عقود من الجامعات وهي تتعلم الجهل.
لنقف ولو لمرة واحدة في الصفوف المتقدمة, لأن الوقوف في المقدمة يعلمنا أن نبقى كذلك حاضراً ومستقبلاً, ولنقل لمن ينفون يمنية الكاتب وعليه يستبعدون روايته من الببلوجرافيا اليمنية: لا هذا الكاتب يمني ابن يمني وإن كان مهاجرًا كغيره من الآلاف المؤلفة التي هاجرت من اليمن مطلع العشرينات من القرن المنصرم وحتى مطلع السبعينات هرباً من الجوع والقحط والجفاف وكتب روايته في المهجر (إندونوسيا) فلا يعني أن ننفي تلك الرواية اليمنية لأنها ببساطة شديدة وهذا ما لم يلتفت إليه البحّاث أنفسهم ترصد واقع مجتمعنا اليمني، وتحديداً حضرموت. وتسرد قصة المهاجرين الحضارم وتفاعلهم مع الحياة الاجتماعية (الأندنوسية) بكثير من الحرفية والمهنية والطبقية أيضاً.
الأدب المهجري يمني بامتياز
وصنف «الشاطبي» الفرقاء الثلاث حسب رؤاهم حيال الأدب المهجري اليمني والصحافة المتشكلة بعد هجراتهم وقال: مازال الخلاف بين النقاد والدارسين اليمنيين حول أسبقية أول رواية يمنية حتى اللحظة مشتعلاً بين ثلاث فرقاء، فبينما يرى فريق من النقاد والدارسين أمثال «هشام علي» و«آمنة يوسف» و«إبراهيم أبو طالب» أن رواية «سعيد» تعتبر أول رواية يمنية بحجة صدورها في اليمن، يرى الفريق الثاني كالباحث «عبد الحكيم صالح» و«زيد الفقيه» أن أول رواية شهدتها اليمن سبقت رواية «سعيد» بسنوات عدة» ففي العام 1931م صدرت رواية «الصبر والثبات» للكاتب اليمني المهاجر في إندونوسيا «أحمد السقاف» من دون إشارات واضحة لرواية «فتاة قاروت» لنفس المؤلف والتي صدرت عام 1927م، فيما رواية «سعيد» صدرت عام 1939م . ينتهي الفريق الثالث كالدكتور نزار غانم بحل وسط يتمثل في أن رواية السقاف تعتبر من الأدب المهجري من دون أن يشرح للقراء الكرام في أي خانة محلية تصنف إذًا ؟! وفي المهجر نشرت رواية «فتاة قاروت» في العام 1927 م ونشرت بعيدها رواية الصبر والثبات في العام 1931 م للكاتب اليمني أحمد عبدالله السقاف وفي الوطن نشرت رواية «سعيد» عام 1939م وتلتها رواية «آلام شعب وأماله» عام 1947م لمحمد علي لقمان.
الصحافة اليمنية نشأت في المهجر
ونوه «الشاطبي» إن ما يجمعهما وإن كان الفارق الزمني بينهما لا يزيد عن العقد أنهما استعانا بالشكل الروائي من أجل تمرير خطابهما الثقافي الإصلاحي الاجتماعي. فكانت الرواية بالنسبة لهم وسيلة أخرى إلى جانب كتاباتهم المتعددة مؤكدًا في الوقت نفسه على أنهما من الصحفيين الذي أسهما في تأسيس الصحافة اليمنية في المهجر وفي الموطن فلا يمكن الحديث عن الصحافة اليمنية في المهجر الآسيوي أو الإندنوسي دون ذكر دور أحمد السقاف في صحيفة «الإصلاح» التي صدرت في سنغافورة في 1916م و«الرابطة العلوية» في عام 1927م التي اهتمت بالقضايا الدينية والأدبية والتاريخية لا سيما ما كان عن اليمن وعن مدن حضرموت بالذات، ولا يمكن الحديث عن الصحافة باليمن دون ذكر دور محمد علي لقمان وتأسيسه في عام 1948 لصحيفة «فتاة الجزيرة» أول صحيفة يومية يمنية وكلاهما جدير بالريادة.
البعد التاريخي في الرواية
اليمنية المعاصرة
وتناول الكاتب والناقد صلاح الأصبحي تعدد وجهات النظر في التعامل مع التاريخ من قبل الروائيين اليمنيين بحسب الغاية التي يجسدها الكاتب في روايته، مشيرًا إلى استخدام محمد الغربي عمران للتاريخ في رواياته» ظلمة يائيل, مصحف أحمر, الثائر, مسامرة الموتى» غير استخدام ونظرة علي المقري في روايته «اليهودي الحالي» غير نادية الكوكباني في روايتها «صنعائي» غير همدان دماج في روايته «جوهرة التعكر», فمنهم من أراد أن يعيد التموضع للتاريخ في الواقع كما فعلت الكوكباني, ومنهم من أراد أن يثير بلبلة في نبش التاريخ لغرض ما أو لتبني وجهة نظر سياسية كمحرك سردي, ومنهم من يكتنفه الوعي وينتصر لمظلمة تاريخية من خلال روايته بعد تزييفها فيما سبق كما فعلت بشرى المقطري في روايتها «خلف الشمس» وهكذا دواليك.
وأضاف: لا نستطيع أن نقول إن الروائي اليمني وهو يطرق باب التاريخ في روايته أنه ذلك الكاتب الواعي والدقيق والحساس والمدرك لحساسية الأمر برمته في الماضي وفي الحاضر, ستجده يتعجل ويتسرع وغير متريث وقد يكون باحثاً عن موضوع خصب يضفي عليه شهرة وباعاً في عالم الأدب بغض النظر عن مسؤوليته الهامة كمثقف يدرك مخاطر التوازن الفعلي بين التاريخ وبين إشكاليات اللحظة التي هو فيها طالما وأن هذه الموجة التي طرأت مؤخراً على معظم من يكتب الرواية في الوطن العربي موجة العودة للتاريخ كحاضن سردي.
وتابع: لقد أثارت هذه الموجة لغطاً نقدياً كبيراً عند النقاد فأطلق البعض عليها «التخييل التاريخي» منهم الناقد العراقي عبدالله إبراهيم الذي اعترض عليه الناقد المغربي سعيد يقطين تلك التسمية التي عدّها مجازفة وطرح فكرة «الرواية التاريخية الجديدة» على اعتبار أن هذه الموجة حدثت مسبقاً بعد نكسة 1967م وسميت الروايات المتكئة على التاريخ حينها «الروايات التاريخية» كما ويمكن احتساب ما يحدث الآن تطوراً في الآليات والغايات مع الإبقاء على تسميتها روايات تاريخية.
الأهم من كل هذا يقول «الأصبحي» أن هذه الموجة في اليمن لها سماتها وأهدافها وموضوعاتها المتعددة بين استعادة التاريخ الحميري لليمن وتاريخ عصور الدويلات وبين من ركز على تاريخ ثورة 26 سبتمبر 1962م والأحداث التي تلتها لغاية أحداث 11 فبراير 2011م كما فعلت نادية الكوكباني في روايتها «سوق علي محسن».
الثقافة الشفاهية وجمالها المتلاشي
ينظر إلى الصوت في الثقافة الشعبية بوصفه حاملاً لقوة عظيمة، فلا يمكن لصوت أن يصدر دون أن يكون له تأثير أو قيمة. وإذا كانت الكتابة محكومة بمنطق محدد للكتابة مهما تمتع الكاتب بالحرية، فإن المشافهة ذات ميزة لا تجارى في حريتها، الناقد والباحث في الأدب الشفاهي علوان مهدي الجيلاني أكد على المتحدث متنصل من القولبة، منساب كسيل يخترع مجراه لأول مرة، الأمر الذي يدفع باللغة إلى آماد غير معروفة، ويجترح طرائق بلاغية محدثة ليضع السامع في قلب الصورة (الموقف أو الحدث أو المروي)، بل داخل عالم شاسع للتلقي أكثر غنى ونجاحاً.
وأضاف: كم هي جريئة وقادرة على تطوير اللغة واستيلادها -أعني تلك الأساليب التي تتم بواسطة رواة-، يتحدث الواحد منهم مثلاً عن تجارب شخصية أو تجارب مر بها المكان وسكانه، من بشر وغير بشر( -الجن مثلاً- إضافة إلى الحيوان والطير والشجر والحجر… إلخ) يفعل ذلك بحرية كاملة من ضغط الجماعة.. ضغط المرجعيات.. وضغط الأبنية المحفوظة، وتعاطف الجمل ومواضع الفصل والوصل، وعلامات الترقيم وغيرها.. كي يمكن لأي كاتب مهموم بالكتابة كفن بحد ذاتها (الكتابة المعيارية) أن يشعر بثقل القواعد التي يخضع لها مهما أتاح له جنونه ووعيه أن يتحرر مقابل حرية يمارسها ذلك الراوي الذي لا يحد مداه سوى قدرته على التعبير الجيد). إنني هنا أتحدث عن الشفاهية عندما تكون متمتعة بكامل امتيازاتها لا عن الشفاهية المتحولة يوماً بعد يوم إلى مجرد متمم وظيفي.
وتابع الجيلاني إن تجربة توثيق الشعر الشفاهي من أفواه المعمرين والمعمرات تضع الدارس أمام إشكالية تثير التأمل والحنين إن جيل اليوم المتحدث بنفس اللهجة (التهامية مثلاً) لم يعد يتفنن في اجتراح الأساليب البلاغية التي نسمعها من كبار السن ونحن نوثق ذاكراتهم. كما أن لغة المسنين توازي لغة النصوص التي نوثقها عنهم من حيث صفاء اللهجة ومخيلتها الخالصة كذلك من حيث ثرائها وامتلائها بمفردات وتراكيب وصور مستعارة من البيئة وجيراننا فيها ومستعارة من ثقافة المكان وخصوصياته الاجتماعية وطرق تصوره للعالم المحيط به.
ولعله بموازاة اختفاء الشفاهية المتمتعة بكامل امتيازاتها (الشفاهية المحملة بالفنيات المشار إليها.. حين يروي الراوي) يختفي مظهر من أهم مظاهر الشعر الشفاهي إنه المظهر الذي كان المهيمن الأقوى على أغلب ألوان الشعر الشفاهي (اقصد به الشعر الشفاهي المغنى).كما أن التخلي عن عادة غناء الشعر مرتجلاً تفقد الشفاهية أحد أجمل مظاهرها، كما أننا نخسر في نفس الوقت أغلب الألوان الشعرية الشفاهية التي كانت حياتنا إلى وقت قريب تحفل بها. لقد كانت الألوان الشعرية الشفاهية التي تجمع بين الغناء والإلقاء أو تعتمد على الإلقاء وحده قليلة جداً حين نفصلها عن بحر الشفاهي المغنى الذي لا يقدم إلا مصحوباً بالآلات (طبول، نايات، مزامير، ربابة، سمسمية، طنبور، قلقلة، طارات، دفوف.. إلخ).
وانتقد الجيلاني التطور المحدود الذي شهدته اليمن والذي وصفه بغير الكافي وكيف لعب دورًا في إخفاء الثقافة الشفاهية وقال: لقد ظل الشعر الشفاهي المغنى لقرون طويلة يمثل حالة من الإبداع التشاركي ومن التلقي الخاطف المحتدم السريع الزوال الغير قابل للمحاورة، والمتأبي على الإدامة والذي لا يمتثل إلا للتكرار ولكن بشروط أخرى وهي ميزات تبحث عنها فنون كثيرة استوعبت الحداثة أو استوعبتها الحداثة اليوم. ولكنها تعاني من واحدية التقديم وواحدية الحالة. فهل يعد التطور المحدود الذي شهده مجتمعنا خلال الثلاثين سنة الماضية مبرراً كافياً لاختفاء هذا الفن؟.
الشعر الشعبي.. التنوع الإبداعي اليمني
أما الشاعر زياد القحم فتناول الجانب الإبداعي المتنوع في الشعر الشعبي في اليمن الذي أكد على تنوع شكله ليذهب لقضايا عديدة وعميقة يختلف باختلاف الحالة الكتابية والجغرافية وقال: يتجاوز التنوع في عوالم الشعر الشعبي في اليمن مسألة الشكل الشعري (رغم القيمة الكبيرة لتنوعه الشكلي) إلى قضايا عميقة جدا في المضمون تتعدد الألوان ويرتبط كل لون بحالة كتابية معينة يرتبط تغير حالات الإبداع بتغير الجغرافيا المحلية، ويصل هذا التغير إلى الاختلاف في مفهوم الشعر ورسالته وأثره من منطقة إلى أخرى, فعند قراءة ما يكتبه شعراء الساحل التهامي يتولد إحساس بأن شعراء هذه المنطقة ينجزون نصوصهم أثناء ممارسة الرقص. فالإيقاع السريع للكلمات، والاشتغال المميز على التكرار مع اختلاف دلالاته، والرجوع المفاجئ من معنى لاحق إلى معنى سابق كل ذلك يشبه ويناسب حركات الرقص، وطريقة الراقص في التعبير عن فرحة أو هم .. وحتى حين يكتب الشاعر مقطعاً تأملياً، يكون التأمل سريعاً والتعبير عنه موجزاً, إنه تأمل الراقص المتحرك وليس تأمل المستغرق المستقر.
وعندما نلاحظ أنه يستغرق سكان المناطق اليمنية الوسطى في التطلع إلى البعيد من قمم جبالهم، ويحاول الشعر هناك أن يحدد أهدافاً جمالية بعيدة يصيب في ذلك ويخطئ، لكنه لا يتوقف عن التجول بعين القصيدة في مختلف الجهات, فيحاول النص الواحد هناك أن يصلح ذات البين ويشتاق إلى أحبة لا يريدون العودة خارج النص، ويتغزل بحبيبات كثيرات وتتحول القصيدة إلى فسيفساء كلماتها جميلة، لكنها طويلة، تجعل فكرة الشعر مسألة متعبة ومتهربة من قواعد تطوير النص، ويكثر استهلاك المعاني وإعادة تدويرها، مع وجود تجارب شعرية تتجاوز هذه العوائق وتوصل صوت الجبل إلى أماكن بعيدة.
وعندما نلاحظ أيضًا حين تقرأ ما يكتبه شعراء الصحراء اليمنية فإنك تسمع خلفية صوتية للنص وهي أصوات الخيول وضجيج المعارك تسمع الفخر القلق، لأنه فخر المقدم على حروب، سيفقد فيها مساحة الحب. التي لا تغفل القصيدة عنها.
وفي مناطق تشتهر بكثرة المهاجرين منها مثل حضرموت، يمكن أن تتخيل الشعر وهو وجهان لغربة واحدة في الوجه الأول رسائل حنين المغترب، وفي الوجه الثاني رسائل الأرض إليه.
وعن التنوع الشكلي أيضاً قال القحم: لقد أبدع اليمنيون الكلمات التي تغنى في المواسم ومناسبات العمل فـ(المهيد) هو مقطع صغير يتفنن المزارع في أدائه أثناء العمل للترويح عن نفسه وتنشيط العاملين في حقله والحقول المجاوره، و(المهجل) هو كلمات مرتبطة بتداول الأداء بين العمال أثناء إنجاز مهمة زراعية أو إنشائية أو غيرها. و(البالة) هي فن الجدال والسخرية والتلميح تؤدى في وقت السمر بشكل حواري بين عدد من الشعراء الذين يتعارضون ويكون سقف الحرية مرتفعا فيها بالمقارنة مع فنون الأداء الأخرى، و(الزامل) غالباً هو بيتان من الشعر تؤدى بشكل جماعي من قبل فريقين مع التكرار مرات متعددة.
كما تنتشر في الأرياف كتابة (القصيد) وفي المدن (الحميني) والقصيد هو النص الموزون على بحر واحد وقافيتين، وهو متطابق تماما مع الشعر النبطي (وهو اللون السائد في بقية مناطق الجزيرة العربية بنفس المفهوم مع فوارق بسيطة في اللهجات).
أما عن الشعر الحميني المنتشر في مدن اليمن فيؤكد القحم عل أنه موزون بطريقة تشبه الموشحات، ومكتوب بلغة خاصة هي مزيج من العامية والفصحى غير المعربة، ويخضع المزج بين المستويين اللغويين لذوق الشاعر، وينجح النص أو يفشل بسبب طريقة الشاعر في المزج بينهما.
مؤكدًا في الوقت نفسه على أن أهم مواضيع الشعر التي تحضر دائماً في مختلف الألوان والمناطق، ويكتبها شعراء الريف والمدن، والمهاجرون خارج اليمن موضوع : شعر الوطن، وكأن هذا الموضوع هو وطن الشعر عند اليمنيين
ثم يتحول شعر الوطن إلى التركيز الشديد على تصوير الحب والتعلق والوفاء.. لكن مع صعوبة التعاطي المباشر بسبب التعقيدات التي تطرأ باستمرار على المشهد العام:
«أردّد قافية حُبّك.. دمي.. واسري بها واطراك
واغنّي لحن عشقك للزمن في رحلة ايماني
من أول صرخة الميلاد وأول دمعة الإدراك
وبسمة أمي الكبرى لطلّة بدرها الثاني
إذن فلتسمع الدنيا: أحبك يا (يمن) واهواك
ولك ياموطني عشقي ولك معزوفة الحاني
واذا حب الوطن للبعض جمله تأتي استهلاك
فانا يوم اسلم الخاين حزمت لعينك اكفاني»
(للشاعر حفظ الله الجشاري).
ثم يسافر الشعر إلى الغربة، ويحاول أن ينظر من هناك إلى ما تركه في وطنه من الهم وما حمله من الحب وما وجده في الغربة من الشوق الكبير:
اهذي، واشم الوطن، وآفز، واسكر به
وآحس كل اليمن واقف ورى بابي
أدري: جرحته.. طعنته بعد، واشعر به
لكن غيابي قدر ماكان باسبابي