«يا أقصر الدروب بين الأرض والسماء» وعلمتنا المدرسة المقدسية أن الألم يختمر أملًا بعزائمهم المسرودة افتتالًا واصطمادًا
أحمد الله أن عمري امتد في هذه الرحلة ووقفت ثلاثة أسابيع مع المقدسيين. صليت الصلاة تلو الصلاة في رواق بيت المقدس، ومررت من أمام كنيسة القيامة، وحائط المبكى. هززت «النخلة الميرمية»، وتذوقت منها رطبًا جنيًّا.
لكم وددت أن يطول مقامي بين كروم الزيتون وبساتين القرايا الفلسطينية. فخراج ساكني الأمراج تلك فيّاض ورجراج. فلولاهم لظل كل طومار شكايًا ليوم التغابن ولأودت ساحة الثقافة بلا منافثة ومثاقفة. ولولاهم لظل جيد الساحة الأدبية مغلولا. بأرضهم تجمعت كل الديانات السماوية، وبأرضهم كانت العهدة العمرية. رسالة العهد والسلام. يا خليفة رسول الله عمر. ويكأن صوتك يعبر بي سماحة الإنسانية طولاً وعرضًا عام 338م، أمانًا لأهل أيليا «هذا ما أعطى عبد الله، عمر، أمير المؤمنين، أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقمها وبريئها وسائر ملتها. أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينقص منها ولا من حيِّزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يضارّ أحد منهم..» وبعدك يا عمر مر بي صوت صلاح الدين وصوت الراحل محمود درويش، سمعته وهو يقول: هذه الأرض لي..
كل هذه الأصوات تشيعني وأنا أصل جنوبًا لآخر شبر من الأرض. وهناك من على خليج العقبة عزمت على أن أمتطي إحدى المراكب وأشق البحر الأحمر حتى أصل لأرض السُّمر. صافحتهم وما قويت على الكلام سمعت أصوات الفلسطينيين تجللني بالحمد والدعوات: محفوف بأنفاس الرحمن تودعنا أيها الأعرابي وقد انتويت أن تشق عباب البحر والخلجان, وتهرع بلا ضجر قويم الشَّطاط جموم النَّشاط, ردؤك العزائم ومضطجعك العلياء (يا راعي العليا), لففت عباءتك في أرض فلسطين كمستبضع وما أنت بخازن لبضاعة, سوى نفيس الكلام الذي سعيت وما ونيت لجمعه, بعد أن مهدت ووطدت في بلاد المقدسيين وتدرعت بالحُلل النفيس عدة ليال, وها أنت اليوم ماضٍ لوطيتك أماط الله عنك وعثاء السفر وكآبة المنظر, تعمد أرض النوبة فأخبرنا بمحاسن منقلبك ومعاج أثرك لدى نقعك أرض «نبتة» مملكة كوش. ويا قراء «المجلة الثقافية» دونكم ما زرفناه في آخر ما رقِمناه ودهِقناه بفلسطين قبل أن نمخر البحر للسودان.
الأغنية بفلسطين تراث الصمود
«من سجن عكا طلعت جنازة». هذه العبارة التي يعرفها جل الفلسطينيين مطلع أغنية شهيرة سجلت بطولات محمود جمجوم، فؤاد حجازي، وعطا الزير.. هؤلاء الأبطال الذين قاوموا الاستعمار البريطاني. الفنان الفلسطيني عزيز سلّام قال: إننا لا زلنا نُغنِّي هذا النوع من الأغاني حتى يومنا هذا, فطبيعة الحضارات والديانات والعمارات جعلت للشعب الفلسطيني هوية ذات لون وطعم يتغنى به بين مختلف الشعوب. لدينا تراث شعبي ثري وثوري مكن لهذا البلد من أن يتكئ ويتربع بين أحضان العراقة والأصالة؛ فأصبح للأغنية الفلسطينية مكاناً ومركزاً ذا أهمية في ساحات الأغنية العربية. لقد أصبحت الأغنية الفلسطينية الأداة والوسيلة التي يعبر بها الفلسطينيون عن ثوراتهم، غضبهم، بطولاتهم، أحزانهم وأفراحهم، فالإصرار والصمود هو رمز هذه الأغاني، حتى بدا واضحاً أن معظم كلمات هذه الأغاني مليئة بغصة ممزوجة بشيء من الألم والتنكيل والتشريد والتهجير، حتى أصبحت بذلك «السلاح الوحيد الذي لا يستطيع الاحتلال مواجهته». فالعدو لا يستطيع منع انتشار هذه الأغاني لسهولتها وسهولة حفظها وتوارثها بين الأجيال.
وأضاف: في فترة النكبة، أي نهاية الأربعينيات، هجر وشرد الآلاف من السكان، وهجرت معهم أدواتهم وآلاتهم الموسيقية، فأخذوا يعزفون ويغنون، وحافظوا على ذلك باعتباره تراثًا وهوية لا يمكن لأي أحد طمسه، وكان ذلك النوع من الغناء مليئًا بالحزن والأسى ورفض الهزيمة، حتى تمكنت هذه الأغاني من أن تحل محل سائر أنواع الغناء كالحب والغزل. فبعد أن هجر الكثير من الفلسطينيين، وأصبحوا لاجئين، كانت أغنية:
«هدي يا بحر هدي
طولنا في غيبتنا..
ودي سلامي ودي
للأرض اللي ربتنا»
رمزًا للحب والاشتياق للأرض والتمسك بحق العودة، حتى أصبح هناك العديد من الأغاني التي تتبع نفس المنوال، وتحمل نفس اللحن، وبكلمات أخرى.
أشهرها «يا ظريف الطول» و»على دلعونة»
وتابع: في فترة الستينيات زادت حالات الشتات والتهجير في معظم أرجاء البلاد، وتميزت هذه الفترة بوجود الكثير من الأحداث والمتغيرات في حياة الشعب الفلسطيني، إلا أن ذلك لم يقضِ على تراثهم وثقافتهم، بل أصبح تمثالاً يحتفى به، وأصبح الثوب الفلسطيني يرافق هذه الفترة بكثرة. ومع تطور الأغنية في هذه الفترة انتشرت الكثير من الأغاني التي كانت تغنى ويحتفل بها مع ارتداء الثوب الفلسطيني فكانت:
«يا ظريف الطول» أشهر وأهم الأغاني الشعبية في هذه الفترة، وكذلك «على دلعونة» التي كانت تغنى برفقة الدبكة، وكانوا يرددون ذلك على آلات العود واليرغول والمجوز والشبابة. كما كانت «الجفرا والعتابا» أو «الميجانا» شيئًا لا بد منه قبل البدء في غناء الدلعونة أو في خلالها أو في نهاية الغناء.
أما في فترة الثمانينيات فشهدت هذه الأغاني قفزة ثرية وجوهرية في مضمونها؛ فظهر الكثير من الفرق الغنائية، وكذلك الفنانون الذين كان يغنُّون ويعرفون العالم بمعاناة الشعب الفلسطيني حتى أصبح ذلك واجبًا يقع على عاتقهم، فكانت فرقة «العاشقين» وفرقة «صابرين» وفرقة «الحنونة» الذين غنوا أشعار «محمود درويش» و»سميح القاسم» و»أحمد دحبور» وغيرهم من الشعراء.
وفي فترة التسعينيات مرت سحابة هدوء الانتفاضات وأحداث عمت أرجاء البلاد؛ فبدا استقرار الأوضاع واضحاً، فكان من الممكن في هذا الهدوء أن تعود الحياة الفنية والثقافية وكذلك الموسيقية؛ لتصبح أكثر استقرارًا وانتشارًا، وبدأت الأغنية الفلسطينية بأخذ شكل أكثر تطوراً وانتشارًا من ذي قبل، كما برز العديد من الموسيقيين والمؤسسات الثقافية والفرق الفنية التي لاقت نجاحاً كبيراً في الوسط الفني الفلسطيني؛ فتنوع مستوى التلحين والغناء والكلمات، وأصبحت الكلمات تزيد في حدة قوتها لتصبح أكثر ثورية، وكانت ممتزجة بآلات العود والناي والقانون، فكانت «منتصب القامة أمشي» و»ما ننسى جدودنا ووقفات العز»، فغنى كلٌ من «مارسيل خليفة» و»سميح شقير»، وعزفا على العود، وساهم هؤلاء في انتشار الأغنية الفلسطينية والحفاظ على هويتها، وساهموا أيضاً في توثيق وسرد الأحداث والمراحل التاريخية التي مرت بها فلسطين.
وزاد: وفي فترة الألفين انتشرت العديد من المسارح الموسيقية والإذاعات والمؤسسات الثقافية والفنية، وكذلك إقامة المهرجانات الفنية؛ فأصبحت الأغنية الفلسطينية تغنى على نطاق محلي ودولي، وكانوا يستقطبون كبار المطربين والعازفين، ومع ذلك لم يدم هذا الحال كثيراً بسبب الاجتياحات والانتفاضات والأحداث التي أدت إلى تدهور الأوضاع وعدم استقرار البلاد؛ مما أدى إلى تضاؤل عدد الفنانين؛ فهي فترة هادئة نسبياً من ناحية فنية، فكانت:
«أناديكم
أشد على أياديكم
وأبوس الأرضَ تحت
نعالكم
وأقول أفديكم»
التي كتبها «توفيق زياد»، وغناها «أحمد قعبور»، وكان لها صدى كبير في هذه الفترة، وانتشرت بين الورى بكثرة، حتى سار الناس على هذا المنوال في أداء الأغاني الثورية للشعراء، فكان هنا نشيد المقاومة، الذي تطور وأخذ طابعه الذي هو عليه، فكان نشيد المقامة شيئًا لا بد منه في هذه الفترة بل زاد وانتشر بشكل كبير.
وأخيرًا في وقتنا الحالي أصبحت الأغنية الوطنية والشعبية والتراثية شيئًا أساسيًّا، حتى أن بعض الفنانين لا يغنُّون إلا أغاني وطنية، فكان لهم الحظ من الشهرة والانتشار في هذا الوقت كـجمال النجار الذي غنى «لو يوم تنادينا يا وطن» وعبدالمنعم عدوان في أغنيته «يما مويل الهوا».
واستدرك «سلّام»: لكن الآن أصبح الفنان الفلسطيني يواجه العديد من الصعوبات والاضطرابات التي تعيق استمرار عمله الفني أو حتى ظهوره بين مختلف الشعوب؛ مما أدى إلى تراجع الحالة الفنية والموسيقية حتى أصبح هناك نقص كبير في عدد المؤسسات الثقافة والفنية، بل أصبحت نادرة جداً، ويمكن إحصاؤها بسهولة تامة؛ ففي مدينة غزة ليس هناك سوى معهد موسيقي واحد. وفي الضفة الغربية لا يوجد سوى جامعة واحدة تهتم بالمجال الفني، وتضع له قسمًا خاصًّا, والقليل القليل من المعاهد الموسيقية والفنية. لكن مع كل الذي أصاب الأغنية الفلسطينية إلا أنها ما زالت محافظة على عراقتها وأصالتها.
1.صحافة تعبئة ودفاع عن الوطن
وفي محور نشأة الصحافة والمراحل التي تلت ذلك استهل الباحث والكاتب «أشرف أبو خصيوان» القول بالإشارة إلى أن فلسطين تعد من أقدم الدول العربية التي عرفت الطباعة؛ إذ دخلتها عام 1830م على يد «اليهودي» نسيم باق، ومرت بتجاربها المبكرة؛ ويعود ذلك إلى مركزها الديني المهم باعتبارها مهبط الديانات، وأن هذا الاهتمام بالطباعة يعكس الاهتمام بالصحافة باعتبارها الأداة الإعلامية المتاحة والصوت المعبر عن آراء الجماهير والطوائف من ناحية، والحكومات من ناحية أخرى، وكان هذا الاهتمام ابتداء من عام 1876م. لقد عرفت فلسـطين الصحافة في وقت مبكر مع العالم العربي التي تنطوي تحت لوائه، واحتلت المركز الخامس. وهذا في حد ذاته يعد خير شـاهد على معرفتها للصحافة مبكراً بعد مصر التي عرفتها عام 1798م ولبنان التي عرفتها عام 1858م وسوريا عام 1865م والعراق عام 1869م.
وعلى أية حال، فلقد ارتبطت نشأة الصحافة الفلسطينية بنشأة الصحافة في البلاد العربية الأخرى؛ فلم تتطور الصحافة في فلسطين خلال النصف الثاني من القرن التاسع كما تطورت في البلاد العربية الأخرى، وكان اعتماد الفلسطينيين على الصحف السورية واللبنانية والمصرية التي سبقت في نشأتها الصحافة الفلسطينية.
وهنا نشير إلى أن معظم الدراسات التي قام بها الباحثون والمهتمون بتاريخ ونشأة الصحافة الفلسطينية تشير إلى أن بداية الصحافة الفلسطينية كانت عام 1876م؛ إذ كان صدور صحيفة القدس الشريف في هذا العام. ومنذ نشأتها مرت الصحافة الفلسطينية بالعديد من المراحل المختلفة؛ إذ تأثرت كل مرحلة بالظروف السياسية والاجتماعية والعسكرية المختلفة والمتعاقبة على فلسطين؛ لذا فإن السمة الغالبة على الصحافة الفلسطينية هي سمة التعبئة الجماهيرية والتحريض والدفاع عن الأرض.
وقال «أبو خصيوان»: لقد مرت الصحافة الفلسطينية بمراحل خمسة بداية من العهد العثماني حتى يومنا. بدءًا من مرحلة النشأة في ظل الحكم العثماني خلال الأعوام 1876 – 1918م؛ إذ صدرت أول صحيفة في فلسطين بعنوان «القدس الشريف» عام 1876م, وصدرت باللغتين العربية والتركية، وكانت تنشر الفرمانات والأنظمة والأوامر الحكومية، ويحرر القسم العربي فيها علي الريماوي، ويساعده راغب الحسين. وهي جريدة شهرية، وتعتبر الجريدة الرسمية الأولى في البلاد. وفي نفس العام صدرت في مدينة القدس صحيفة «الغزال». وفي هـذه الفترة جرت محاولتان متواضعتان لإصدار مجلة «مدرسة صهيون» عام 1906م، ومجلة «الترقي» في العام التالي, إلا أن عام 1908م يعتبر نقطة انطلاق للصحافة في فلسطين.
مزاج «المكتبجي» عقاب جسدي من إسطنبول!
وأضاف: كانت الشؤون الصحفية في هذه الفترة مرتبطة بالنظارة «وزارة المعارف» ونظارة الداخلية في إسطنبول، والرقابة كانت أحد السيوف المسلطة على رقاب الصحافة والعاملين فيها، وخصوصاً في أوقات الحروب؛ فيراقبها مراقب المطبوعات «المكتبجي» في الولاية وفق مزاجه الذي كان يصل أحياناً إلى حد العقاب الجسدي. ويضاف إلى ذلك تعقيدات ومصاعب الحصول على رخصة إصدار صحيفة، وعدم التزام الموظفين بالقرارات الإدارية طمعاً في الحصول على الرشاوى من مقدمي الطلبات.
ثم جاءت المرحلة الثانية، وهي مرحلة الانتداب البريطاني من عام 1918 – 1948م، ورافقها انتشار التعليم في فلسطين إبان عهد الانتداب؛ فشهدت تطورًا ثقافيًّا واسعًا، تمثل في ازدهار الحياة الأدبية والفكرية؛ وظهر نتيجة لذلك عدد كبير من الأدباء والشعراء والصحفيين والمؤرخين، كما أُنشئت جمعيات لأندية ثقافية وسياسية وأدبية واقتصادية باللغات العربية والعبرية والإنجليزية، كما أنشئ عدد من المطابع ومصانع الورق ومحلات لتجليد الكتب؛ فساهمت مساهمة فعالة في الحياة الأدبية، والسياسية، والثقافية. كما أصدرت قيــادة الجيـش البريطـاني صـحيفة رسـمية بعــد الانتـداب على فلسـطين، وأسـمتها « The Palestinian News». تلاها المرحلة الثالثة، وهي مرحلة خضوع الضفة الغربية وقطاع غزة إلى الحكمين الأردني والمصري. وتبدأ هذه المرحلة من 1948 – 1967م. فالمرحلة الرابعة مرحلة الاحتلال الإسرائيلي من عام 1967 – 1994م . وأخيرًا المرحلة الخامسة مرحلة دخول السلطة الوطنية الفلسطينية من 4/5/1994 حتى الآن.
الصحافة المهاجرة
وأوضح «أبو خصيوان» أن غالبية الصحفيين الفلسطينيين أصبحوا صحفيين مهاجرين بعد وقوع النكبة، فتفرق الصحفيون الفلسطينيون بين الدول العربية، وتميزت الهجرة الصحفية بسمتين: أنها في غالبها هجرة صحفيين وليست صحفًا, وأن هذه الهجرة كانت هجرة داخلية قاصرة على الهجرة إلى الأقطار العربية.
أما الهجرة الصحفية الفلسطينية التي تبدأ من منتصف السبعينيات إلى منتصف الثمانينيات فإن الطابع العام الذي يغلب عليها يكاد يختلف جذرياً عن الطابع العام للهجرة السابقة؛ فالهجرة الفلسطينية المعاصرة تتميز بسمتين بارزتين: السمة الأولى أنها هجرة صحف؛ إذ قام الفلسطينيون بإصدار صحف خاصة بهم، تعبر عن آراء واتجاهات الفصائل الفلسطينية المتعددة. بينما السمة الثانية أنها هجرة خارجية، فأغلب الصحف الفلسطينية المهاجرة صدرت خارج الوطن العربي؛ إذ تركز أكثرها في قبرص، ووجد بعضها في لندن، وباريس. فصدرت في المهجر ست مجلات هي: الشرق الجديد, شؤون الساعة, الأفق, البلاد, العرب الدولية, اليوم السابع.
الفن الحرب الناعمة
من جانبه، تناول الفنان محمد مدوخ القوة الناعمة، وهي الأدوات التي يستخدمها الفنانون الفلسطينيون، ويطوفون بها بقضيتهم حول العالم بدون أسلحة.. فقال عن هذا الفن: نحن أمام معركة بالقوة الناعمة، يجب على المقاومة الفلسطينية خوض غمارها بكل جدارة. الفن الفلسطيني استطاع أن يكون له بصمة فنية تساهم في حرب التحرير، تلك هي الحرب الناعمة التي تكون بدون أسلحة؛ لأنها حرب نفسية وليست عسكرية. ولا يقتصر الفن الداعم والخادم للقضية على المسلسلات والأفلام فقط بل هناك سبل كثيرة، مثل الأناشيد والأغاني الوطنية التي تشحذ الهمم, ومقاطع الفيديو القصيرة التي تبين قوة الفلسطيني, وكذلك الصورة نجد لها أثرًا على النفس إذا تم تنفيذها وتوظيفها بالشكل السليم.
وأضاف: رأينا في السنوات القليلة الماضية بعض الأعمال الدرامية التي سجلت علامة مميزة واضحة بتأثيرها على سلوك المواطن الفلسطيني.
ومع ذلك نحن بحاجة ماسة لأفلام عالمية وبلغات أجنبية أو «مدبلجة» على أقل تقدير، تكون ذات سيناريو مؤثِّر وأداء فني راقٍ مهما كلفت من ثمن؛ لأننا عن طريقها نغزو العقل العالمي، ونصنع أكبر جبهة مساندة لقضيتنا العادلة والانطلاق إلى فضاءات العالم؛ لنصنع جبهة أصدقاء تبكي لبكائنا، وتفرح بانتصارنا، وتتظاهر من أجلنا، وتدفع الغالي والثمين من أجل الحرية والكرامة والإنسانية.
الأرض اللوحة التي تنتشر فيها الألوان
أخذ تعبير الفنانين الفلسطينيين يتأثر بحالة شعورية، دفعته لتجاوز المألوف الفني، وولد لديه شكلاً نضاليًّا، ألصقه بالأرض المقدسة التي تفوح منها رائحة البقاء من أجل التغيير. الفنان التشكيلي «خالد نصار» تناول الثنائيات المتناقضة للفن التي يستحيل أن تُجمع في غير اللوحة الفلسطينية بكل تلك الأريحية وشعارها: الألم المخضب بالأمل، وقيمتها المضافة وعملتها النادرة. وأكد أن الحضور اللوني المبهر الذي جسدته مختلف الأساليب التعبيرية يحمل صفات ورموزًا متشابهة إلى حد ما؛ كونها تنهل من ذات المعين؛ فكان لها بالغ الأثر في استنطاق الواقع عبر تمازجات لونية، تغزل حكاية شعب، تقرؤها عيون العابرين على جل اللوحات الفلسطينية؛ فأصبحت ذات تأثير فاعل في تحريك الساكن أحيانًا، وتوجيه الأنظار لما يحدث على الأرض أحيانًا أخرى؛ فقد صارت اللوحة هي الأرض التي تنتشر فيها الألوان؛ لتحدد رؤى الإنسان الفلسطيني وتطلعاته. وهنا أقول: إن الفن الملتصق بمجريات الحياة اليومية للفنان سيكون أكثر صدقًا وتعبيرًا, عبر قنوات الفن التي تبلور رسالة الجذور وثقافة العبور.
الحركة المسرحية في فلسطين قديمًا
أستاذ الأدب المقارن واللغة العربية والمدير العام لمؤسسة الأفق للثقافة والفنون الدكتور «عفيف شليوط» تطرق إلى ما بين عامي 1909 – 1914م, التي شهد خلالها تشكل عدد من الجمعيات، من بينها جمعية «المنتدى الأدبي» التي أسسها جماعة من الموظفين والمبعوثين والكتاب سنة 1909 في القسطنطينية؛ لتكون مركزًا يلتقي فيه العرب من زوار العاصمة المقيمين فيها. كما تطرق أيضًا إلى أنه بين 1922 – 1927م انتشرت ظاهرة في مدينة القدس، ساهمت في تطور المسرح الفلسطيني إسهامًا كبيرًا، إذ قام «صليبا الجوزي» بالاشتراك مع بعض العوائل الفلسطينية المتطورة بإحياء حفلات موسيقية وغنائية، كانت تتخللها فصول تمثيلية تعالج مشاكل المجتمع الفلسطيني. وكان يشارك في هذه الحفلات عدد كبير من السيدات والآنسات المتعلمات, وبذلك أغنى «الجوزي» المسرح الفلسطيني بتمثيلياته التي من أشهرها «صور من الماضي, الطرف الثالث, عيد الأم, ذكاء القاضي, عيد الجلاء..».
ونقل «شليوط» عن كتاب «فلسطينيون 1948 – 1988م», الذي استعرض فيه بعض النشاطات المسرحية في فلسطين قبل العام 1948م, إسهام جمعية «الرابطة الأدبية» في حيفا في النشاط المسرحي؛ إذ قدمت مساء السبت 19 كانون الثاني 1929 مسرحية «قاتل أخيه» لجميل البحري على مسرح بستان المدينة. وكذلك إسهام اللجنة التمثيلية لنادي الشبيبة في بيت لحم بتقديم عروض مسرحية مختلفة، منها «عواطف الزوج».
وأكد «شليوط» أن زيارات فرقة رمسيس المصرية لمدينة حيفا أثرت على نشوء نهضة مسرحية في المدينة؛ فكان أن غرست نواة هذه النهضة «جمعية الرابطة الأدبية» التي جعلت حفلاتها التمثيلية عامة ومجانية؛ فأقبل عليها سكان حيفا على اختلاف مللهم ونحلهم. ثم تبعتها «الجمعية الإسلامية» فمثلت على مسرح «زهرة الشرق» رواية «فهد الطرابلسي», بعدها قام رجال «النادي الساليسي» بتمثيل روايتين، إحداهما «كسرى العرب»، والأخرى «انتقام الكاهن».
مستدركًا: لكن بعد حرب 1947 – 1948م شهدت البلاد فترة ركود ثقافي عام، شملت النشاط المسرحي؛ إذ إن الكثير من دعاماته غادرت البلاد مخلفة وراءها فراغًا كبيرًا، ترك أثرًا سلبيًّا على تطور الحركة المسرحية الفلسطينية في تلك الحقبة.
المسرح الفلسطيني عقبات وأزمات
أما في الجليل والمثلث فقد قامت محاولات عديدة لتأسيس فرق مسرحية عربية إلا أن معظم هذه المحاولات باءت بالفشل؛ إما ليأس العاملين في المسرح، أو لعدم وجود دعم مادي، أو بسبب الانقسامات التي حلت بهذه الفرق المسرحية. فما إن تتوقف فرق مسرحية عن العمل حتى تظهر فرق مسرحية أخرى، ومن ثم تختفي هي الأخرى.
مشيرًا إلى أن هذه الظاهرة (أزمة استمرارية عمل الفرق المسرحية) خطيرة، وتعرقل تقدم الفن المسرحي المحلي، وتفقد بالتالي الرابط بين الجمهور والفرقة التي دعمها الجمهور؛ فيصاب جمهورنا بالإحباط، ويفقد الثقة بهذه الفرقة، ومن ثم بالمسرح المحلي كله.
وتساءل «شليوط»: لكن لماذا لا تستمر هذه الفرق المسرحية؟ وما هي المشاكل التي تعترض طريق استمراريتها؟
موضحًا أنه إذا ما بحثنا في كيفية نشوء هذه الفرق نلاحظ أن معظمها تقوم على المبادرة الذاتية المدعمة بالحماس الشخصي، لكن المسرح ليس مجموعة من هواة التمثيل، يلتقون حول مخرج مسرحي؛ لأن مصير فرقة كتلك التفكك والاندثار. مشددًا على أهمية وجود إدارة للمسرح، تقوم بتوزيع الأعمال، وتتحمل الأعباء المادية. ومشددًا أيضًا على أهمية وجود الجانب الآخر المكمل للمسرح، ألا وهو الجمهور (فجمهورنا) – والحديث «لشليوط» – غير معتاد على ارتياد المسارح كالجمهور الأوروبي؛ لهذا نحن بحاجة إلى تثقيف جمهورنا ثقافة مسرحية، وتعريفه بأهمية ودور المسرح في المجتمع. بكلمات أخرى: يجب أن نخلق جمهورًا مسرحيًّا مثقفًا وواعيًا لأهمية المسرح ودوره في المجتمع، ويتمتع بذوق فني رفيع.
مسرحنا إنساني الخطاب
أما الفنان المسرحي ماهر محمود داود فشدد على أن الفن المسرحي ليس ترفاً فكرياً كي نقوم بكتابته، أو ترفاً إجرائياً من الناحية الحركية على خشبة المسرح, فالواقع الفلسطيني يمتلك خصوصية في تعامله مع الفن المسرحي بصفته أداة مهمة في تشكيل الوعي الثقافي والمعرفي, وفي تحريك عجلة المجتمع الفلسطيني؛ فالمسرح ليس وسيلة ترفيهية بل يتخطى دوره لترسيخ مفاهيم وقيم وطنية، تخاطب العقل والوجدان معاً. وقال «داود»: لعل خصوصية الظرف الاستثنائي الذي يمر به الشعب الفلسطيني بعد نكبة عام 1948م صنعت تحولاً ملحوظاً في التعامل مع أدوات المسرح ليجابه التحديات التي تسعى لطمس الهوية الثقافية الفلسطينية, فبعد أن كان يناقش كيفية التعامل مع اللغة، وكيفية التعامل مع المنهج الدراسي، ومجابهة السماسرة وبيع الأراضي، ومحاربة الهجرات المنظمة, أصبح يحلل أبعاداً أعمق على الوجود والأرض والأحقية التاريخية لمن يملك هذه الأرض, وتعزيز مفاهيم الحقوق الوطنية.. فنرى غسان كنفاني ومعين بسيسو وهارون هاشم رشيد كتبوا إبان نكبة 67, كما مثلت الكثير من الفرق الفلسطينية في المحافل الدولية لإيصال رسالة وطن هُدر حقه وتشتت أهله. وبعد انتفاضة الأقصى الثانية أصبح المسرح الفلسطيني إنساني الخطاب، رسالته موجهة للعالم بما يدركه العقل ويلامسه الوجدان.