أخبار الجوف

«عَرَبًا نحنُ حَملنَاها ونُوبة»

«أهلًا وسهلًا يا زول مرحب بيكم.. كيفنكم» في رحم بلاد الحضارة مملكة «كوش ومروي ونبتة» أحفاد «بعانخي» بلاد السمر ومقرن النيلين, أرض الذهب والرجال. خِلنا أيها الأعرابي أن الجن اختطفتك أو أن الأرض اقتطفتك.. ويكأن الكروب في الأسفار تقرب المنايا وتوصل بالفتى الحِمام. لقد سمعنا في نهاية الأسبوع الماضي نية دلوجك من فلسطين عبر مركب بخليخ العقبة, فركبت البحر الأحمر وها أنت تحل «بميناء «بورتوسودان» لعمر الله قد خشينا ذلك بعد أن استبطأناك. لكن صدق من قال يا زول «من جاء ما أبطأ». فأخبرنا الآن وقد قرأت على متن مركبك ما قرأت من أن الثقافة السودانية تتميز بسمات الأصالة والتفرد والمحافظة، رغم توافد الثقافات الخارجية الفرعونية منها والإغريقية والرومانية، إلا أننا حافظنا على الكثير من معتقداتنا وعمارتنا وفنوننا. وهل سيخفى على الفاحص الحصيف أن السودان القديم لعب دوراً بارزاً في تطور الحضارات الإنسانية, وهل سيخفى أننا اجترحنا على إثرها العديد من المنجزات الفكرية والتقنية التي تفوقنا بها على كثير من الأمم والشعوب في العصور القديمة, كابتداع نظام متقدم في الكتابة الأبجدية «الخط المروي», فحضارتنا المروية تعتبر من أعظم الحضارات الإنسانية التي خلقت أرثا حضاريا عظيما تمثل وتشكل جزء منه في أهرامات البجراوية واللغة المروية, سنأخذك لتجول بها وتحبر صحيفتك من مأهولها وأثورها. فقلت: لنعود بكم إذًا لتاريخ جدكم «بعانخي» وفي مملكته كوش ستكون أولى الحكايات بأرض السُّمر..

* مملكة كوش الحرف المروي

استهل الصحافي المتخصص في الشؤون الثقافية «محمد إسماعيل الطيب» الملف بالحديث عن ثراء التنوع الثقافي والانفجار الكتابي الإبداعي في السودان ما جعله بلدًا متنوع الثقافات يموج بالحراك الإبداعي في مختلف ضروب المعرفة وكشف «الطيب» أن تاريخ الكتابة السودانية يعود إلى أكثر من 500الف عام. حيث سجلت الحضارات السودانية القديمة مثل «حضارة كوش» مدونات رفعية بالحرف المروى، وابتدعوا نظاما متقدما في الكتابة مثل ما أبدعوا في اختراع الفخار وتصنيع الحديد والعمارة والفنون, وبعد ذلك بحوالي 60 قرنا واسر تأسست مملكة سنار في العام 1405م, وبداء الحرف العربي يشق طريقه في المدونات السودانية حيث كان كتاب «الطبقات» لمحمد ود ضيف الله، ثم توالت بعد ذلك الكتابات السودانية.

حفريّات في الهويّة الثقافيّة السودانيّة

لابدّ من الإقرار بأن التنوع في السودان له ملامحه الخاصّة ونكهته المتميّزة عن غيره، وذلك يرجع لموقعه الجغرافي والسمات المناخية والمكوّنات السكانية والتطور التاريخي، وما يرتبط بذلك من هجرات بشرية ونشاط اقتصادي، ومؤسّسات اجتماعية وثقافية وسياسية ودينية شهدها السودان. أستاذ اللسانيات والتراث الدكتور «مصطفى أحمد علي» أكد أن وادي النيل ظلّ منذ فجر التاريخ مركزًا لاستقطاب المجموعات البشرية من الشرق ومن الغرب، من جزيرة العرب وشمال أفريقيا، من السودان الأوسط الغربي والهضبة الحبشية، فحركة الانتقال والنزوح والهجرة تضاعفت وازدادت رسوخا عبر طريق الحج ما بين غرب أفريقيا والحجاز، فالوجدان السوداني الموحّد، أو الثقافة السودانية الموحّدة تشكّلت، وتتشكّل عبر هذه الهجرات البشرية. وينبغي في هذا الصدد أن نشير إلى حقيقة مستترة، ألا وهي أهمّية الرافد المغربي للثقافة العربية الإسلامية في السودان، والمتمثّلة في عدّة ملامح، من بينها المذهب المالكي والتصوّف والمكوّنات الديموغرافية السكّانية الحاضرة في المشهد السوداني ونسيجه الاجتماعي. وفي مقابل الرافد المغربي، ثمّة رافد هندي للذائقة السودانية وافد عبر البحر الأحمر، تشكّل عبر التاريخ، ويتمثّل في القيم الجمالية والأزياء والزينة والعطور والأنغام والموسيقى.

وأضاف: لقد ظلّت المراكز الحضارية في وادي النيل، منفتحة عبر التاريخ لمؤثرات ثقافية وافدة، لاسيّما في العقيدة واللغة وأنماط العيش، ويتمثّل ذلك في الديانة الكوشية المروية وعبادة آمون، والمسيحية، والإسلام، كما يتمثّل ذلك في التبدّلات التي طرأت على لغة التفاهم بين المكوّنات السكانية، من كوشية مروية، إلى نوبية وافدة من الغرب، إلى عربية وافدة من الشرق والغرب. مشددًا على أن النواة الصلبة للثقافة المحلية ظلت متماسكة، وأن التحولات اللغوية والدينية والاجتماعية والاقتصادية، ظلّت تحكمها قوانين التأثير والتأثّر، والأخذ والعطاء، فعلى مستوى اللغة نجد أن التأثير النوبي العميق في عربية وادي النيل، ليس على مستوى المفردات والمصطلحات فحسب، بل حتى على المستويات الدلالية والتركيبية والصوتية. وحسبنا لبيان التأثير النوبي في الصور الذهنية والتعابير البلاغية في عامّية أهل السودان، الإشارة إلى أبيات قالتها الشاعرة السودانية، كلثوم الجابرية، في مدح الفارس نقد الله ود عمر:

أب كرّيق في اللجج

سدّر حبس الفجج

أنا أخوي مقلام الحجج

وأبو كرّيق هو التمساح تشبيهاً لما في ظهره بما في جذع النحلة من نتوءات «كرّيق»، وهي نوبية.

كما ينبغي أن نشير إلى تأثير الثقافات الكوشية والنوبية والمسيحية في العادات والممارسات الاجتماعية وما يتّصل بها من تقاليد تتصل بالأفراح والأحزان والمآتم والاحتفالات والتنشئة الاجتماعية، في السودان بوجه عامّ، وفي المجموعة الثقافية المستعربة على ضفاف النيل بوجه خاص ( الشلوخ والختان والمشاط، وأنواع الطعام والشراب، ورمزية النيل وإيزوريس، إله الخصب، ورمزية الصليب، ورمزية العنقريب … إلخ).

ثقافة متعدّدة المكوّنات

وتابع: كما لا يمكن لأي باحث موضوعي أن ينكر الدور الكبير والحاسم الذي اضطلعت به الثقافة العربية الإسلامية في تشكيل وجه السودان الحديث، ويمكن مقارنة السودان في ذلك بمعظم البلدان العربية، في هذا الجانب، مع التنبيه إلى أن الاستعراب أو التعريب الذي عرفه السودان، وسائر الأقطار العربية، هو استعراب وتعريب. فالتعريب نتج في المقام الأوّل لدواع وظيفية ترتبط بالثقافة والإدارة والسياسة. كما يجدر بنا التنبيه إلى أن حركة التبادل الثقافي والاجتماعي والحراك البشري المشكلة للهوية السودانية، ظلّت عبر التاريخ تتجه في محور شرقي –غربي، وأن الوجدان السوداني المتمثل في الذائقة السودانية، من موسيقى وألحان وإيقاعات وقوالب شعرية وزينة عطور وشارات وأزياء وطعام وشراب، هي نتاج تاريخي لهذا المحور الشرقي الغربي، تتّجه باتجاهه وتتّسق معه وتتفاعل معه. كما ثمّة إضافة نراها مهمّة للغاية فيما يتعلق بدولة كوش والتاريخ القديم، لا بدّ من النظر بموضوعية للأمر، وينبغي ألّا ننكر أن المناهج الدراسية والرسائل الإعلامية والثقافية والتربية الاجتماعية والسياسية التي نشأ عليها جيل ما بعد الاستقلال، فكلّها تقوم على انحياز واضح وتهميش للإرث الثقافي والاجتماعي العميق والواسع الغنى والثراء والعطاء، الموروث من كوش ومروي والعهد المسيحي، قبل وفود المؤثرات العربية الإسلامية وما صاحبها من تحوّل ثقافي واجتماعي، ولا بدّ من الاعتراف بأن هذه المؤثّرات بقدر ما أضافت من جوانب إيجابية، فقد كان لها بالقدر نفسه جوانب سلبية تتمثّل في تقهقر النموذج الاجتماعي المتطوّر، إلى نموذج قبلي تجاوزه المجتمع النوبي الكوشي منذ حقب ضاربة في القدم.

الاستعراب يقلب «الكنداكة والميرم»*

وزاد: إن الاستعراب الذي قلب كيان المجتمعات السودانية وبلغ أوجه في سنّار ودارفور اصطبغ بصورة عميقة بالبداوة والنكوص عن التطور الاجتماعي الذي حقّقته المجتمعات المحلية في النوبة ومروي وكوش وغيرها، ومن آيات ذلك أن المرأة كانت في هذه المجتمعات القديمة هي «الكنداكة»، أي الملكة، و»الميرم»، أي الأميرة، التي تكاد تحصر أدوات اتّخاذ القرار في يدها والأمثلة في التاريخ وافرة. وبالجملة فالاستعراب البدوي والافتخار بما نسمّيه «قيم» البادية العربية هو ما ينبغي أن ننظر فيه بعمق وعين فاحصة وناقدة.

* دور الصالونات الأدبية والمنتديات

وبعد زهو المجموعات الحديثة وكما هو سائدٌ في التراث البشري من نزعةٍ للإنسان في الحكي والاستماع والاستمتاع بمجالس الأنس «الصالونات الأدبية»، فلم تكن المجتمعات السودانية بمعزلٍ عن هذا النشاط العفوي الذي تقوم به مجموعة من البشر تُساكن بعضها في جغرافية واحدة، أو تجمعها طبيعة العمل أو تنتمي لرؤية فكرية أو ثقافية أو دينية واحدة. الباحث في التراث والشاعر «عبد المنعم الكتابي» قال: تكثر هذه الأنشطة في المواسم كالحصاد والري والأعياد الدينية والمناسبات الاجتماعية. غير أنه لا يستطيع أحدٌ أن يؤرخ لأول منتدى أو صالون أدبي في السودان. لكن المتداول أن صالون «روضة الشعر» هو أول صالون تم رصده وقد كتب عنه المؤرخ الاجتماعي حسن نجيلة في «ملامح من المجتمع السوداني» ذاكراً أن هذا الصالون أسسه مجموعة من المهتمين بالشعر وعدد من الشعراء من الذين جمعتهم ظروف العمل في بناء خزان سنار مابين الأعوام 1913 – 1928م وذكر منهم الشعراء صالح عبدالقادر، إبراهيم العبادي ومحمد ود الرضي, وفيه تتم مناقشة العديد من قضايا الشعر كما كانوا يتبارون في نظم الشعر جماعياً إما مجارةً أو تشطيراً أو تخميساً.

وأضاف: وشيئاً فشيئاً أخذت تظهر بوادر تنظيم العمل الثقافي وساعد على ذلك تأثر الشباب بفكرة الجمعيات الأدبية ومن ثم قيام نادي الخريجين في 1918م, الذي كان يُعنى بتنظيم وإدارة الليالي الثقافية فانتقلت هذه الظاهرة إلى أحياء المدينة المختلفة وكانت قد فارقت عفويتها لتأخذ شكلاً تنظيمياً له قواعده وأهدافه ورسالته التي يختص بها.

صالونات ما قبل الاستقلال

ومنها صالون جمعية الاتحاد السوداني «دار فوز», ويؤكد «الكتابي» أن هذا الصالون تأسس كجمعية سرية في العام 1919- 1920م, في منزل محي الدين جمال بأم درمان, ومن أبرز روادها المؤسسين صالح عبدالقادر، إبراهيم يوسف، أحمد القاضي, وقد قامت أجندة الجمعية على توعية الجماهير والمناداة بوحدة وادي النيل فكانوا يصدرون المنشورات سراً ويتداولون أمر البلاد في قضايا التعليم ونهضة المرأة ويعبئون الجماهير للنضال ضد المستعمر، وقد خرجت القصائد والأناشيد الشهيرة من هذه الدار. وأكد أيضًا أنه تفرّخ عن هذه الجمعية فكرة جماعة اللواء الأبيض والتي اختارت النضال المسلح والذي نتجت عنه ثورة 1924م, والتي قادها الضابط علي عبداللطيف ورفاقه كما تمخض عن هذه الجمعية تياراً سياسياً راسخاً وهو الحزب الاتحادي الذي قاد مع رصيفه حزب الأمة حركة الاستقلال.

كُتب الاشتراكية «بجمعية أبو روف»

أما «جمعية أبو روف» للقراءة التي أسسها في أواخر عشرينيات القرن الماضي التوأم حسن وحسين الكِد فكانت توفر الكتب لروادها وتختار كتاباً أسبوعياً يتم تداوله بالنقاش، ويثبت لهذه الجمعية أنها أول من تناول الفكر الاشتراكي بالنقاش عبر ما كان يصلهم من كتب، فساهمت بخلق وعي جديد بالواقع السياسي وانضم في ما بعد عددٌ من روادها إلى الحركة الاتحادية والبعض بشَر بالتيار الاشتراكي كوعي سياسي جديد.

وهناك «جمعية الهاشماب» التي أسست في أُواخر عشرينيات القرن الماضي ويُنسب تأسيسها إلى الأخوين محمد وعبدالله عشري الصديق مع نفرٍ آخرين من بينهم السياسي والأديب المعروف محمد محجوب ود. عبدالحليم محمد، ويوسف التني. ومن الواضح أن هذه الجمعية أخذت منحىً مختلفاً إذ كان معظم روادها من خريجي كلية غردون، الذين اعتنوا بالكتابة والنشر، فأسسوا مجلة الفجر التي استقطبت العديد من ذوي المهارات الأدبية وقد كان أبرزهم الشاعر التيجاني يوسف, كما اعتنت بالأدب العالمي ومارس أعضاؤها نشاطاً فكرياً متقدماً أسس لفكرة القومية السودانية، كما أسهمت في حركة التعليم الأهلي. ثم تأسست «جمعية ود مدني» الثقافية كما كان هناك صالونات أخرى نشأت بعد تصاعد الوعي السياسي والاجتماعي الذي أفرز وعياً آخر نتج عنه قيام صالونات نسوية كجمعية نهضة المرأة، وجمعية المرأة المثقفة، ورابطة النساء المثقفات، والتي أسهمت جنباً إلى جنب مع الجمعيات الأخرى في الحراك الوطني, أما صالونات ما بعد الاستقلال فحسبنا أن نشير «لندوة أم درمان» الأدبية والتي تأسست في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي.

* الحركة الشعرية قراءة موجزة

وبالانتقال للحركة الشعرية في السودان شدد الصحافي والناقد الأدبي «مجذوب العيدروس» على أهمية أن نستخدم عبارة حركة الشعر العربي في السودان، حتى لا نغمط المبدعين السودانيين ممن كتبوا بلغات كانت سائدة في الحضارات السودانية القديمة والتي تمتد لآلاف السنين، بعد أن تزايد الاهتمام بهذه الحضارة وما خلفته من آثار عظيمة في السنوات الأخيرة.

وقال «العيدروس» أما الشعر العربي في السودان فيعود التدوين فيه إلي عصر «مملكة سنار 1505- 1821م», ومن شواهده ما سجله كتاب «الطبقات» للجعلي في القرن التاسع عشر، ومخطوطة كتاب الشونة. كما برزت في العهد التركي المصري أسماء شعرية كبيرة منها الحسين الزهراء ويحيى السلاوي الذي ناصر الثورة العرابية في مصر. وكان من المطلوبين لاحتلال البريطاني، وتم نفيه إلى اسطنبول، ومحمد عمر البنا الذي يمكن القول انه لعب ذات الدور الذي لعبه محمود سامي البارودي في إحياء القصيدة الحديثة وفي نفس الفترة.

ثم جاءت أجيال في القرن العشرين حافظت على تقاليد القصيدة العربية وأسهم آخرون بنصيب وافر في حركة الحداثة الشعرية العربية وعلى رأسهم التيجاني يوسف بشير الملقب بشاعر الجمال والروح والوجدان وهو من رواد شعر الرومانسية الصوفية المتجددة، والذي كثيرًا ما تجري المقارنة بينه وبين الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي، كما أنهما عاشا في الفترة نفسها تقريبا وتشابهت تجربتهما إلى حد بعيد. وفى فترة الثلاثينات من القرن الماضي كانت هناك محاولات للتجديد حمل لواءها الشاعر محمد احمد محجوب ومن أبرز مؤلفاته كتاب «نحو الغد», كما اشترك مع الدكتور عبد الحليم محمد في كتاب «موت دنيا» ونشر قصائد لم تلتزم بشعر الشطرين وأن حافظت على الموسيقا.

تيار الغابة والصحراء الحداثي

وأضاف: ومن بين كبار الشعراء المجددين أيضًا محمد المهدي المجذوب الذي كتب بمختلف أنماط القصيدة العمودية وقصيدة التفعلية وكان مجيدا للغتين العربية والإنكليزية. أما في أوائل سبعينات القرن الماضي فقد ظهرت التيارات الشعرية في السودان نتيجة لمدارس فكرية، ولتأثره بالشعر العربي والعالمي، ومن بينها تيار الغابة والصحراء، وهى حركة شعرية ثقافية تأسست من القرن الماضي، وتعد من أبرز تيارات الحداثة الثقافية والأدبية في السودان، ورأت في مفهوم التمازج العربي الذي رمزت له بالصحراء والأفريقي ودلت علية بالغابة لخطاب لمسالة الهوية السودانية، ومن أبرز رواد هذه المدرسة النور عثمان ابكر، محمد عبد الحي، محمد المكي. فكتب محمد عبد الحي قصيدته المطولة «العودة إلى سنار» كعلامة فارقة في تطور القصيدة بأناشيدها الخمسة وقد رأى فيها بعض النقاد أنها قراءة شعرية –ثقافية لموضوع الهوية السودانية المزدوجة بين العروبة والإفريقانية، وقد شغل موضوع الهوية الساحة الشعرية والثقافية. وجاءت أيضا قصيدة الشاعر محمد المكي في ديوان «أمتي» وفي «بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنتي», أما النور عثمان أبكر فيعد واحدًا من أبرز شعراء التفعلية البارزين في السودان وأحد مؤسسي مدرسة الغابة والصحراء وله إسهامات في تطوير الأدب والشعر والنقد والصحافة في السودان وغيره من بلدان الشرق الأوسط العربية، ومن الأسماء التي عرفتها الساحة أيضا الشاعر عبد القادر الكتيابى، وكمال الجزولي، وعبد الله شابو.

موسيقيا الشعر وتوليد الصورة

وتابع «العيدروس»: لقد تأثر بعض الشعراء أيضا في السبعينات وما بعدها بالشاعر مصطفى سند في اهتمامه العالي بموسيقيا الشعر وفى توليد الصورة الشعرية واستخدام المترادفات. وتمتاز أشعاره بالإيقاع الموسيقى الصاخب وقاموسها المتفرد من حيث اللفظ أو الصورة التي يرسمها ومن أشهر دواوينه «البحر القديم» وشهدت السبعينات أيضا بروز أسماء شعرية كبيرة منها عالم عباس وفضيلي جماع والياس فتح الرحمن.. فحاول بعض هؤلاء صياغة بيان شعري سبعيني كما مهد هؤلاء أيضا لحركة الحداثة الشعرية التي سيطرت على أجزاء هامة من المشهد الشعري.

أما في التسعينات فقد جاءت للساحة السودانية والعربية الشاعرة روضه الحاج التي حققت حضورًا إعلاميًا وعربيًا من خلال برنامج أمير الشعراء التلفزيوني.

* القصيدة الخرساء تسيطر

وعن قصيدة النثر التي سيطرت في العقدين الأخيرين، وخلقت لها مساحة من القراء وسط الشباب قال «العيدروس»: إن من بين تجارب شعراء قصيدة النثر المهمة في السودان تجربة الشاعرين محجوب كبلو ويوسف الحبوب والذين واليا أكثر من جيل شعري فترجمت أشعار الحبوب إلى الفرنسية والأسبانية. غير أن قصيدة النثر لم تجد الاعتراف من قبل بعض النقاد والشعراء، وقد أسماها الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي «القصيدة الخرساء». غير أنه وفي هذا الإطار كتبها بعض الشعراء ممن تمرسوا على قصيدة التفعيلة وجاءت قصائدهم مزيجا من نثرية القصيدة وأجواء التفعيلة التي تجمع بين الرؤيا والقاموس الشعري الجديد الذي يكاد يقترب عند بعضهم من لغة الحياة اليومية. وقد تأثر هؤلاء الشعراء بالشاعر السوري محمد الماغوط الذي كان رائدا لقصيدة النثر العربية في أبهى تجلياتها وشعراء مجلة شعر اللبنانية. ومن شعراء العقود الثلاث برزت أسماء الشاعر حاتم الكناني، نجلاء عثمان، عصام عيسى.. ومن شعراء الشباب الذي تمسك بتقاليد القصيدة العربية أسامه تاج السر، أبوبكر الجنيد، عماد محمد وعشرات الأسماء التي غادرت الوطن إلى المهاجر والمنافي كعاطف خيري والصادق الرضي وحافظ عباس محمد نور. أخيرًا يجدر القول إن هؤلاء الشعراء يتكئون على تراث شعري سوداني وعربي وعالمي، مما يفتح أمامهم أفاق رحبة، وهم يعبرون عن وأقع شعري داخل المنظومة العربية يمتاز بنكهة وإيقاع سوداني –أفريقي.

ملامح مدوَّنات الشِّعر الشَّعبيّ

وتناول الباحث بمعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية وجامعة الخرطوم الناقد الدكتور عباس الحاج الأمين مدونات الشِّعر الشَّعبيّ في السُّودان مشيرًا إلى عملين هما الشِّعر القومي في السُّودان لعزالدين إسماعيل، ودوباي للطيب محمد وذلك لأنَّ هذين العملين يعتبران – برأيه – من العلامات الفارقة في «كرونولوجيا» الشِّعر الشَّعبيّ في السُّودان، لما احتويا عليه من نظرات عميقة ودالة وناقدة لهذا الشِّعر.

وقال «الأمين» في لمحة تاريخية تعود معرفة السُّودانيين بتنميق الألفاظ والعناية بها إلى عهود سحيقة ضاربة بجذورها في القدم؛ ويدلنا على ذلك ظهور الوثائق السُّودانية الخالصة من القرن الثامن عشر ق م. فقد وردت «نتف» تحمل كثيراً من خصائص الشِّعر في هذه الوثائق منها – على سبيل التمثيل لا الحصر – ما جاء في افتتاحية مسلة «بعانخي» ووثيقة «هارسيوتيق» التي يصف فيها رحلته لأرض نبتة ثم تتويجه، والوثيقة التي كتبها الملك «خارميدي» في القرن الرابع الميلادي في أواخر العهد المروي. هذا وقد كتب النوبيون في العصور الوسطى عهد المسيحية بلغتهم النوبية والتي أخذت منها فيما بعد لهجات «المحس» و«الدناقلة» و«الكنوز». ومثل ذلك نجده في عهود الممالك المسيحية إلى نهاية مروي وبداية دخول العرب أرض السُّودان والانتشار فيها وذيوع لغتهم وثقافتهم.

الشعر قبل وبعد «سودنة العرب»

كاشفًا النقاب على أن «النتف» المشار إليها في هذه الوثائق لا يمكن أن نصفها بأنها ش عر أيّاً كان نوعه شعبياً أو غير شعبي، لكنها تدفعنا للقول إن ثمة إرهاصات لوجود شعر شعبي في السُّودان قبل دخول العرب، وذلك لأن هذه المحاولات الشِّعرية كانت تستخدم في المراسيم الدينية والانتصارات الحربية وطقوس التتويج، وكل هذه المناسبات مما يشترك فيه الخاصة والعامة, والملوك – الشعب.

وأضاف «الأمين»: ثمَّ مع قيام أول تحالف عربي _إسلامي وإفريقي_ وثني في السُّودان، وأعني هنا سلطنة الفونج، ومع بداية «تعريب السُّودان» أو «سودنة العرب»، بدأ الشِّعر يدخل طوراً جديداً من حيث الشكل والمضمون. ولعل أبرز شاهد على الشِّعر الشَّعبيّ في ذلك العهد كتاب الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشِّعراء في السُّودان (1727_1809م), ففيه شذرات كثيرة من الشِّعر الذي يمكن أن يوصف بـ«الشَّعبيّ». فهو شعر أبرز ملامحه أن لغته «هجين» مضفورة من العامية والفصحى. مؤكدًا على أن القصيدة الشَّعبيّة أو العامية هي الأسُّ الذي نهض عليه عماد الشِّعر العربي في السُّودان. مما أغرى باحثين فيما بعد بالتعصب إلى الشِّعر العربي محاولين إرجاع الشِّعر العربي، بل والثقافة العربية إلى جذور عربية محضة، ناسين أو متناسين المكوِّنات الثقافية الأخرى الأفريقية والوثنية التي لابدَّ أن تترك بصماتها على هذا الشِّعر وتطبعه بطابع خاص وفريد. من هؤلاء – مثلاً – الشيخ عبد الله الضرير في كتابه «العربية في السُّودان 1922م».

وتابع: كما وحظي الشِّعر الشَّعبيّ في السُّودان في العقود الأولى من القرن العشرين باهتمام الباحثين، جمعاً وتدويناً وتحقيقاً، فتخبرنا بذلك آثار شتى، نمثل لها بمدونات الإداريين البريطانيين إبان الفترة الكولونيالية أمثال هيللسون وآركل وماكمايكل ومجلة السُّودان في رسائل ومدونات، وكتابات باحثين سودانيين أمثال المبارك إبراهيم الذي ألف بالاشتراك مع الدكتور المصري عبدالمجيد عابدين كتاب «الحردلو شاعر البطانة». واختتم «الأمين» ثم وجد الشِّعر الشَّعبيّ عناية علمية أكثر من قبل الأكاديميين السُّودانيين، وذلك منذ إنشاء وحدة أبحاث السُّودان في العام 1963م بجامعة الخرطوم، والتي من أهدافها الرئيسية جمع وتوثيق وتدوين التراث الشَّعبيّ السُّوداني. فلا تكاد تخلو إصدارة من إصدارات سلسلة دراسات في التراث الشَّعبيّ السُّوداني التي تصدرها الوحدة ومن بعدها معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية من شعر شعبي.