عمرٌ مضى .. حتى لم أعد أنا
زرت مدرستي الثانوية في مهمة عمل بعد سنين طوال من مغادرتها ، اختلفت المكانة وثبت المكان كما اختلف الأشخاص وبقيت الشخوص .
في الطريق إليها عادت بي ذاكرتي حين كان (أبي حبيبي) بسيارته يوصلنا وقد يوصل معنا بنات الجيران ، يفتح المذياع و أغنية الرويشد تصدح (صبحك الله بالخير ) .
جيلنا لم يكن له العديد من الخيارات إذاعة واحدة وأغنية واحدة ، تزدحم السيارات يقومون بتوصيل بناتهم و أخريات من المقربين فقد كان ذلك من المهام القيادية الخاصة للأب وحده .
وحين دخلت الشارع اليوم وجدت السيارات تتبعثر بشكل عشوائي تقلِّ بنت أو اثنتان بالكثير وأغلبها مع سائق آسيوي أو مع أم أنهكتها مسؤوليات و أدوار هي في الحقيقة للأب .
المدخل كما أذكره تماماً أو أنهُ شبه لي ، ألتفتُ إلى جدران عتيقة أذكر كل تفاصيلها و لكن يا ترى هل ستذكرني ؟!
أمعنت النظر برهةً، لم تعد ذات الجدران ولم تكن الأرضية ذاتها !
لقد تم هدم بعضها و ترميم الآخر إضافة إلى تبديل وطلاء حتى خيِّل لي أنها لم تعد هي أو مالذي بقي منها !!
ولكن سؤال يقف هنا هل لازلت أنا من كانت تدرس هناك ؟
ليس بالضرورة أن يحمل هذا الكلام سمة حزن قد يكون التغير للأفضل أو للغير..
لم أعد أحمل نفس الفكر ولا الأهداف ولا الأحلام ولا ولا..
لم أعد استخدم عبارة (حين أكبر ) كما لم تعد الحياة الوردية تنتظر تخرجي ..
لم يعد يهمني تكوين صداقات كثيرة ولا التسرع في تسمية كل معرفة جديدة ( صديقتي) ،أصبحت أقنن صداقاتي وأحصر الغالبية في خانة أقارب أو معارف أو زملاء .
لم أعد أكتب (إلى الأبد )لأني أدركت أن لا شيء إلى الأبد .
لم أعد أشاكس أمي ولا أقول أقنعيني ،أصبح اقتناعي غير مهم و رضاها هو الأهم .
لم أعد أغبط (صديقاتي )على أمهاتهم المتساهلات ، اليوم أرى أمي هي الأفضل وأن شدتها وحرصها كانا هما ملاكي الحارس ، وأصبحت أتشبه بها و احتذي حذوها .
لم يعد ( أنيس منصور )كاتبي المفضل ، ربما لذلك استحق لقب ( كاتب الشباب) ،تعرفت على غيره الكثير و عجبت من نفسي كيف كانت لي بعض الخيارات ،و مازلت أتمسك ببعضها كما
د- غازي القصيبي ود -مصطفى محمود والعقاد .
لم أعد أستطيع أن أقفز الست درجات كما كان تحدينا السابق بل أرقى الدرجة إلى الأعلى بتؤده وتمهل وقد تكون بصعوبة حيناً آخر ..
لم أعد أشرب البيبيسي والكولا والشوكلاته بذلك الجنون ، أصبحت لا أحبذ مذاق السكر، وهاهي قهوتي المرة تكتب معي ..
لم تعد تعجبني تلك الأغاني التي ظهرت في مراهقتنا وثبت فعلا كما قيل عنها وعن مؤديها مجرد فقاعات هواء ..
لم أعد أعاند مجتمعي وأتحداه في تصرفاتي معللةً عدم قبولي لقيوده وبدأت أنا أضع القيود وأبررها..
حتى أحلامي لم تعد هي أحلامي ..
لم أعد أحلم بذات الخيال الجامح بل أصبحت تلامس الواقع ،كما لم تعد جل أحلامي عني بل تُعنى بأشخاص آخرين هم مصدر سعادتي وطموحي ..
لم تعد محاور أحلامي الحب والمال ، أصبحت الصحة والعافية والستر والرضا والإستقرار والأمن .. كلمات لم تكن تعني لي شيء واليوم هي كل شيء.
لم أعد أعطي العلاقات أكبر من حجمها ولا أعطي الأشخاص حباً أو كرهاً اكثر مما يستحقون ، لم أعد أندفع في المشاعر اليوم الوسطية في الحب أوالكره هي شعاري.
اقتداءً بقول علي كرم الله وجهه :أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما ، وأبغض عدوك هوناً ما عسى أنْ يكونَ حبيبك يوماً ما..
لم أعد أسمي صديقتي أختي ، تعلمت أن الصديقات مهمات لكن لاصديقة أصدق من الأخت ولا أحد يحل محل الأخت ،هي الصديقة الأولى والأخيرة ومابينهما صديقات مراحل عمر ..
لم أعد أهتم بالأنضمام للجماعة وأرضائها ، فحين كانوا يتابعون (الكرة )في عصرها الذهبي تابعت مجاراةً لهم رغم عدم حبي لها ، اليوم اهتماماتي تنبع من رغبتي بها وليس برغبة إرضاء الغير و مالايهمني لن أضعه في أولوياتي..
الاستقلال سمة نضج ، و الخيارات الذاتية دون تأثير الغير هي ثقة ..
لم أعد أنا هي تلك التلميذة التي دخلت قبل سنوات من هذا الباب ، حتمية التغير الداخليي ينبع من تغير كل ماحولك ، الزمن الأشخاص ،المواقف ، الظروف ..
كثيرة هي الأمور التي تغيرت فيني ومني ..
ويحضرني قول جميل أظنه لغسان كنفاني ( إن كانت أفكاري هي ذاتها قبل عشرين سنة .. فإذاً لم أتعلم شي خلال هذه العشرين ..