كتّاب إخبارية سمح الالكترونية

وباء ينتشر.. ونفوس تعتبر (2)

لم تكن جائحة كورونا هي الجائحة الأولى التي تضرب جزيرة العرب في الحقبة المعاصرة، فتذكر كتب التاريخ أنه في سنة 1337هـ الموافقة 1919م حل بجزيرة العرب وخصوصًا منطقة نجد وباء سمي بجائحة «عام الرحمة»، وقد اتفق على تسميته بذلك؛ لكثرة ترحم الناس على الموتى، وقد سميت كذلك بسنة الطاعون، كما سميت سنة السخونة؛ من ارتفاع درجة حرارة المصابين بالوباء، وقد أباد هذا الوباء مدنًا وقرى بأكملها لم ينجُ من أهلها إلا ما ندر، وانشغل الناس حينها بحفر القبور وتجهيز موتاهم، وقيل إنه تكسرت النعوش في هذه الجائحة لكثرة عدد الموتى؛ فاستعان الناس بأبواب منازلهم، وبالبسط لنقل الموتى إلى المقابر.
وذكر المتخصصون أن وباء سنة الرحمة هو نفسه جائحة «الأنفلونزا الإسبانية» الفتاكة التي انتشرت في أعقاب الحرب العالمية الأولى فقضت على 40% من سكان العالم في ذلك الوقت.
وتذكر المصادر أن تعامل حضارتنا الإسلامية مع تلك الجوائح وهذه الأوبئة كان سببًا في عدم فتكه بعدد أكبر ممن فقدوا خلالها، رغم قلة الإمكانيات المادية والطبية في تلك الحقبة.
لم يخل تراث حضارتنا الإسلامية من قصص وأخبار عن كيفية مواجهة الأوبئة والجوائح، مستشفة ذلك من أقوال ثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم، في إقرار وسائل للوقاية من الأوبئة والجوائح؛ بأن يُلزم الناس ببعض الممارسات التي تُشرع؛ بل توجبها الشريعة؛ لتكون وسيلة وسببًا في مواجهة هذه الجائحة وذاك الوباء.
ولعل موجة «طاعون عمواس» التي كانت في بدايات الدولة الإسلامية الراشدة، وما مارسه المسلمون سواء رأس الدولة متمثلًا في خليفة المسلمين الفاروق مرورًا بأمراء المناطق لمواجهة هذا الوباء – دليل على سعة أفق هذه الشريعة وسبقها في إجراءات الحجر الصحي.
لقد تحرك المسلمون في إطار ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عوف رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إذا سمعتم به «يعني الطاعون» بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه)، وكذلك صح عن النبي -صلى الله عليه سلم-: «لا يوردن ممرض على مصح» وكذلك حثه على تجنب الأمراض الفتاكة عندما أوصى: «فر من المجذوم فرارك من الأسد».
وهذه الآثار النبوية أشارت بوضوح إلى ما يعرف حاليًّا بالحجر الصحي كوسيلة لمواجهة الأوبئة والجوائح، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكتف بأن يأمرهم بعدم القدوم إلى الأرض الموبوءة، بل أتبع ذلك بأن أمر من كان في أرض أصابها الطاعون ألا يخرج منها؛ وذلك لمنع انتشار العدوى وانتقال الوباء إلى مناطق أخرى. وقد كان هذا الأثر سببًا في رجوع الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعدم دخوله الشام بعد أن شارف على دخولها، وقد وصله خبر طاعون عمواس.
وتتجلى فسلفة الحضارة الإسلامية في مواجهة الأوبئة والأمراض في تلك الإجابة البسيطة من الفاروق على من أنكر عليه عودته من رحلته للشام مدعيًا أنها فرار من قدر الله؛ فرد الفاروق -مبديًا فهمه العالي- بأن تلك الإجراءات هي أسباب أُمرنا بها لندور مع أقدار الله، فقال: «نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله».
وطلب الفاروق في طاعون عمواس من أبي عبيدة أن يرتحل بالمسلمين من الأرض الغمقة التي تكثر فيها المياه، والمستنقعات إِلى أرضٍ نزهةٍ عالية، ففعل أبو عبيدة. وفي ذلك درس في الأخذ بأسباب الوقاية من المرض والوباء والابتعاد عن مصادره وأماكن استفحاله.
وبقي أمين الأمة أبو عبيدة بن الجراح وغيره من الصحابة في الشام ولم يخرجوا منها بعد أن أصابها الوباء.
وذكر الطبري في تاريخه أن بلاء طاعون عمواس لم يرتفع إِلا بعد أن ولي عمرو بن العاص رضي الله عنه الشام، فخطب النَّاس، وقال لهم: أيُّها الناس! إِنَّ هذا الوجع إِذا وقع إِنما يشتعل اشتعال النَّار، فتجنَّبوا منه في الجبال، فخرج، وخرج النّاس، فتفرقوا حتّى رفعه الله عنهم، فكان تفرق الناس عن بعضهم وعدم اجتماعهم، تقليلًا لنسبة انتقال العدوى حتى لا يهلكهم المرض جماعاتٍ، بل يهلك من كان مصابًا به من الأفراد ويبقى الآخرون في معزل عن الإصابة به.
لقد كانت الإجراءات الاحترازية، والتدابير الضرورية التي اتخذتها حكومة مملكتنا مملكة الخير بقيادة خادم الحرمين الشرفين الملك سلمان بن عبدالعزيز ال سعود وسمو ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان حفظهما الله ، لمواجهة ومكافحة والوقاية من فيروس «كوفيد 19» المعروف بـ «كورونا المستجد»، مستلهمة من تلك الممارسات التي نظرتها حضارتنا الإسلامية الغراء؛ وذلك لضمان سلامة المواطنين والمقيمين -على حد سواء- وحفظ صحتهم وأمنهم، وكانت حازمة كما ينبغي لها أن تكون، بما تضمنته من قرارات جريئة: كوقف العمرة، وغلق الحرمين، والحجر الصحي، وحد حرية التنقل، ومنع التجمعات، وإيقاف بعض الأنشطة التجارية والصناعية، وإيقاف الجُمع والجماعات، وإغلاق المساجد مؤقَّتا وغيرها؛ ولم تكن بدعًا غريبةً عن شريعتنا الغراء؛ أو مخالفة للمواثيق الدولية ذات الصلة؛ بل هي قرارات سارت مع روح الشريعة ومقاصدها التي جعلت حفظ النفس من أولويات مقاصدها، وتوافقت مع المواثيق الدولية، وكذلك حال سياسة مملكتنا العظيمة في كل الممارسات والقرارات والإجراءات.
لقد أكدت قواعد الشرع ومقاصده على أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فحرصت شريعتنا في باب سلامة الأشخاص وأمنهم على حفظ الأبدان، من خلال تنظيم مكافحة الأمراض والأوبئة المعدية والوقاية منها، بما فيها الحجر الصحي والنهي عن المخالطة، وطاعة أولياء الأمر فيما يتخذونه من تدابير، وما يصدر عنهم من أوامر تدخل ضمن واجباتهم وسلطاتهم الشرعية، بما يمكن من تحقيق المصالح الدينية والدنيوية للبلاد والعباد وهو ديدن مملكة الخير العامرة.
وتلاءمت المواثيق الدولية لحقوق الإنسان -التي تعتني مملكتنا بالحفاظ عليها ومراعاتها في كل ممارساتها- مع هذه المقاصد حين أباحت تقييد الحقوق والحريات الأساسية، واستحضرت حالة الضرورة والقوة القاهرة والخطر العام لوضع استثناء على ممارسة هذه الحقوق والحريات والسماح بتقييدها، والتي كان من بينها الأسباب المتعلقة بحماية الصحة العامة، من أجل ضمان حماية الأفراد والمجتمعات على حد سواء من الخطر العام والتهديد الحقيقي لسلامتهم وأمنهم.
لقد كانت هذه الجائحة فرصة لأن يتدبرها معايشوها ليستلهموا من بين أنيابها دروسًا وعبرًا كثيرة نجول بين بعضها في مرات قادمة.