المقالات

وباء ينتشر.. ونفوس تعتبر (3)

 

بينما أهمٌّ بكتابة مقال اليوم من تلك السلسلة التي وعدت بتدوينها حول «جائحة كورونا»، إذ تناقل إلى سمعي قرار مليكنا -حفظه الله وأطال في عمره- السامي الذي يمتلئ رحمة، ويفيض حنوًّا، وينم عن إنسانية اعتدنا عليها من المليك وولي عهده الأمين – حفظهما الله على الدوام للخير راعين وبه مغدقين – قرار معالجة من يصيبه ابتلاء «كورونا» على نفقة مملكة الخير لا فرق فيه بين مواطن أو مقيم حتى وإن كان مخالفًا لنظام الإقامة.
ربما تتقاصر الكلمات، وتتوارى العبارات عاجزة عن التعبير عن إنسانية هذا القرار، وحنو مقاصده، ورحمة مدلولاته، وعظيم أثره؛ فالدول كلها تنشغل بهذه الجائحة؛ فتعطل بعضًا من قوانينها الاعتيادية لتفعل بنودًا، وموادَّ استثنائية لتستطيع أن تقاوم هذه المحنة، ومملكة الخير لا تصرفها الصوارف، ولا تشغلها المحن، ولا تعيقها أوضاع استثنائية؛ عن أن تكون مملكة للإنسانية على الدوام، وأرضًا للخير في السراء والضراء.
وذاك درس عظيم تعلمنا إياه تلك الجائحة، أن حنو القيادة ورحمتها وانشغالها بصناعة المعروف، وبذل الخير، واختيارها دومًا مرتبة الإحسان في التعامل مع الرعية، متخطية منزلة العدل، لهو ديدن مملكتنا، عودتنا إياه في ظل قيادة ملك الحزم والعزم الفياض بالخير خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله ورعاه- وسمو ولي عهده الأمين صاحب الرؤية الثاقبة، والآراء الرشيدة النافعة -أطال الله عمره ومد بالخير ظله.
لعل قيادتنا الرشيدة أرادت أن تعلمنا وتؤكد علينا في تلك المحنة أن صناعة المعروف لا بد أن تكون ديدن الرعية كما هي ديدن الراعي وسمت قراراته وصفة سياساته.
فالمعروف كلمة شاملة لكل ما عُرف خيره وحسنه، وهو صورة من صور التعاون الإنساني المطلوب، حث القرآن عليه فقال: «وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى»، وجاء فيما رواه أحمد والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَإِنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ، وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ أَخِيكَ»، «ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته»، «ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه».
فصنائع المعروف التي ورد في الأثر أنها تقي مصارع السوء، هي كل نفع وبذل للناس، أبوابها متنوعة، ونوافذها متعددة، وهي عبادة عظيمة، وصفة إنسانية سامية، وخصلة تعاملية راقية؛ إنها العطف على المتألمين، ورحمة المحتاجين، ومساعدة المعوزين، والبذل للفقراء والمساكين، ومواساة المكلومين، فكشف كربة عن مكروب، وإطعام جائع، وشفاعة خير، وسداد دين، وإعانة معوز، وإصلاح بين متهاجرين، وعيادة مريض، وتشييع جنازة، وتسلية مكلوم، وإعانة محتاج، وحنو على فقير أو معوز أو أرمل، وكفالة يتيم أو مسكين، وقضاء الحاجات، والوقوف عند الأزمات، وإزالة الأذى وإماطته حسًّا إزالته عن الطريق، أو إماطته معنى بصيانة الأذهان وحمايتها من العقائد الفاسدة والمذاهب المنحرفة والأفكار الهدامة.
وتعزز تلك القرارات الخيّرة درسًا مفيدًا في تعزيز قيمة (المرونة)، وتأصيل فكرة أن الحياة ليست بلونين فقط، ومن كان بالأمس مخالفًا ممنوعًا مرفوضًا منبوذًا، قد تحوله المحنة لظروفها اليوم إلى مكفول معني به مراعى.
فالمرونة درس تؤكده المحنة تأكيدًا على مناحٍ كثيرة، ليصبح المرء مرنًا في تقبل الأمور، فالأصل أن ينشط الناس خارج بيوتهم لكسب عيشهم ولتعمير الأرض، ومنبوذ أن يمكثوا في البيت دون حركة، لا سيما الرجال، فتأتي المحنة لتقول لنا إن فقه الواقع يفرض علينا أن يكون المقبول هو بقاء الناس في بيوتهم، معزولين؛ ففي ذلك سلامتهم، وبهذا طريقة لمواجهة تلك المحنة والتغلب عليها.
والأصل في الإنسان أنه كائن اجتماعي بطبعه وفطرته؛ يتزاور ويجتمع ويخالط ويجالس فيتجانس ويتآلف، وينبذ الفرقة والشتات، ومع تلك الجائحة صار المنبوذ واجبًا يفرضه فقه النازلة والواقع والحال، والفطرة والعادة الإنسانية أضحت منبوذًا يُمنع ويُرفض.
تلك المرونة التي لا بد أن نتعلمها لنتعامل مع كل واقع بفقه، ومع كل نازلة بما تفرضه، فليست الحياة أبيض أو أسود على الدوام، فلربما كان لون الوقت هو ذاك الرمادي الذي يمتزج فيه البياض بالسواد.
لم تكن قرارات الخير هذه إلا شعورًا من قيادتنا الرشيدة بالمسؤولية ودرس لنا لنتعلم من تلك المحنة أن المسؤولية التزام الشخص بما يصدر عنه من أقوال أو أفعال، وهي ذلك الالتزام العامٌّ فيما يصدر وينشأ من الأفراد، من حيث العدم كما هو من حيث الوجود، فهو التزام الشخص بما يترتب عليه بسبب الأقوال والأفعال.
وتتفاوت المسؤولية وتختلف باختلاف الرعيّة المنوطة بالراعي، فتارة تكون المسؤولية كبيرة وواسعة، وتارة تكون صغيرة محدودة، فمسؤولية الحاكم كبيرة وواسعة تجلت في هذه القرارات التي تشمل جميع أفراد الأمة، وتشمل جميع شؤون المجتمع، والرجل مسؤوليته في جميع ما يخصّ أهل بيته وأسرته، والمرأة مسؤوليتها تتعلق ببيت زوجها وعيالها، والمواطن والمقيم مسؤولان عن حفظ الوطن وحفظ أمنه، تلك المسؤولية التي ينبني عليها حب الوطن وحب الخير له، والسعي إلى نفعه، والعمل على رفع شأنه؛ فللوطن حق كبير على أفراده الذين يعيشون فيه، فالخير الذي يتحقق في الوطن عامة يعود عادة إلى جميع أفراده، والعكس بالعكس، فمن أراد الخير لنفسه فعليه أن يسعى إلى خير الوطن الذي يعيش فيه، ولو لم يكن موطن آبائه وأجداده.
تلك بعض من الخواطر التي جالت بخاطري مع هذا القرار السامي، أسأل الله أن يحفظ مليكنا الرحيم وولي عهده الأمين ويحفظ مملكة الخير على الدوام.

وإلى لقاء.. يتبع…