المقالات

وباء ينتشر.. ونفوس تعتبر (4)

 

للتاريخ ميزة عظيمة جعلت بعض منظريه يصفونه بأنه مستودع العبر، وذهب بعضهم لوصفه بأنه مخزن السياسة، كما وصفوا الجغرافيا بأنها ورشتها، ودارس التاريخ دومًا يستلهم من قصصه وأحداثه، حتى يصل لأن يستلهم من كل ما يمر به من أحداث العبر والدروس؛ ولقد استوقفتني «جائحة كورونا» لأتأمل محنة أحياها وأعايشها كما تعايشها البشرية جمعاء؛ فكانت المقدمة التاريخية السابقة.
لقد ضربت «جائحة كورونا» المعمورة فأصابت البلدان جميعها حالة شلل، توقفت معها حركة الطائرات وأنشطة المطارات، وغُلقت بيوت الله، وعُلقت بعض الشعائر احترازًا، وخلت الشوارع من المارة، وأُرغم الناس على ملازمة البيوت، وعلقت أعمال الأجهزة الحكومية، والمؤسسات التعليمية والدينية والاجتماعية بل والاقتصادية، حتى إشعار آخر.
محنة عظيمة تمر بها الإنسانية جمعاء، غير أن الفطن يُحسن التعامل مع المحن؛ ليجعلها منحًا بقدر الله ورحمته وعلمه، ويحمل التاريخ كثيرًا من قصص أرواح أضناها ما ألم بها من ابتلاء قدّره الله، كان فيه من الخير كثير، وذلك مصداقًا لقوله تعالى: «وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» (البقرة: 216).
فالإنسان يقع له الشيء من الأقدار المؤلمة، والمصائب الموجعة، التي تكرهها نفسه، ولربما جزع، أو أصابه الحزن، وظن أن ذلك المقدور هو الضربة القاضية، والفاجعة المهلكة، لآماله وحياته، فإذا بذلك المقدور منحة في ثوب محنة، وعطية في رداء بلية، وفوائد لأقوام ظنوها مصائب؛ فإحسان التعامل مع هذه الوقائع يوقع النفع من حيث لا يحتسب، وتلك قاعدة عظيمة في بيان قضية المصالح والمفاسد، فتقدير الله تعالى للإنسان كله خير، وعقيدتنا أن الله جل وعلا لا يخلق شرًّا محضًا لا خير فيه، بل وإن كان شرًا في صورته الظاهرة البادية؛ إلا أنه يتضمن كثيرًا من الخير الخفي البادي لذوي الأبصار وأهل الاعتبار، لذلك كان من دعائه عليه الصلاة والسلام (والشر ليس إليك)؛ فكم من محنة صارت في حقيقتها إلى منحة، وكم من بلية حوَّلها الله إلى عطية، وكم من بلاء تجلى بعد ذلك عن نعماء، والمؤمن دومًا يستحضر قول الله عز وجل: «مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» (الحديد:22)، ويعايش المؤمن دومًا ما رواه الطبراني وغيره من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك»؛ بل إن من أركان الإيمان، الإيمان بالقدر خيره وشره، والمؤمن دومًا يعيش مع قدر الله على جناحي الخوف والرجاء، يحلق بهما في سماء العبودية لله، متمثلًا ما رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرّاء شكر؛ فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاء صبر؛ فكان خيرًا له».
فاليأس والإحباط لا يعرفان طريقًا إلى قلب المؤمن؛ لأنه يعرف أن ربه رحيم ودود عظيم رحمن، هو أرحم به من والدته، قد كتب وقدر له ما يصيبه من المصائب في هذه الدنيا، لحكمة يعلمها سبحانه، فيُوقن أن الله عز وجل جاعل لما وقع بالبشرية فرجًا قريبًا ومخرجًا ليس بعيدًا.
وهي منحة ربانية لنا لنتذكر بعضًا من نعم غفلنا عنها، وأنستنا لذتَها حياةٌ مزدحمة بالعمل والأشغال. فلعل الله يدعونا لأن نعود إلى بساطة فارقناها منذ زمن، وأساسيات حياتية أهملناها، ولربما بقاؤنا في البيوت محتجزين احترازًا قدره الله لنعاود ملازمة أقرب الناس في حياتنا أبعدتنا عنهم الحياة ومشاغلها، فنعاود التعرف عليهم مجدّدًا، إن لم نكن نتعرف على ذواتنا أيضًا، وهي بلا شك فرصة لمعرفة قيمة نعم الله الكثيرة المتوالية التي ربما لم نعد نستشعر وجودها لديمومتها، ومن منا لم تكن تلك الجائحة فرصة له أشعرته بلذة طعام المنزل ومتعة الاجتماع عليه بين الأسرة؟!، ومن ذاك الذي لم يعد يستكشف لذة دفء الأسرة ومتعة اجتماعها، ويستشعر الأمان داخل المنزل لا خارجه؟!، ومن هذا الذي لم تشعره تلك الجائحة بقيمة وطنه المعطاء الفياض بالخير الحريص على أرواح كل من يعيش على ترابه مواطنًا كان أو مقيمًا أو حتى عابر طريق أو ضيفًا جاء للزيارة أو السياحة، وقد كان البعض دائم الهروب منه إلى غيره من البلدان.
لقد كانت هذه الجائحة فرصة لتؤكد لنا أن القيم المادية الاستهلاكية لا يصح مقارنتها بالقيم الإنسانية؛ وعليها أن تتراجع لتعلو القيم الإنسانية. جاءت كورونا لتدرك الإنسانية من واقع تلك التجربة عظم القدرة الإلهية وتواضع الإنسان مهما أوتي من قوة؛ فمخلوق لا تراه العيون فعل بالعالم ما أفقدنا أرواحًا بل وفعل الأفاعيل التي تراها العيون وتعايشها البشرية الآن. جاءت كورونا لندرك قيمة بعض من الممارسات الاجتماعية التي فطر الإنسان عليها وحرمتنا منها الجائحة احترازًا؛ كالمجالسة والمؤانسة واللمس والمعانقة.
وأخيرًا من لم تكن له تلك الجائحة فرصة لمراجعة النفس والعودة إلى الله فلن يعتبر من مواقف ولن يستفيد من تجارب.
كان هذا إجمالًا لبعض ما جال بخاطري مع تدبر تلك الجائحة نعرج عليه تفصيلًا مع بعض الدروس الأخرى في المقالة القادمة.

….يتبع