المقالات

وداعًا مدرار العطايا أبا بدر

 

أمسكت بالقلم لأدون كلمات أرثي بها الشيخ / عبدالله ماطل الجريد «أبا بدر»؛ فما طاوعني القلم، فظللت أشحذ مدادَه، وأستجدي خطه، وأطلب الحرف فلا أجده، وأبحث عن الكلمات التي يمكن أن تصفَ رجلًا أتهيَّبُ فكرةَ رثائه؛ لكوني لن أوفيه حقه.
جاء يوم الخميس الرابع عشر من شهر رمضان الفضيل لعام 1441هـ ليترجل الفارس «أبو بدر» – رحمه الله – عن جواده مودعًا دنيا سطر فيها بكل يوم من أيام عمره ذكرى خير لا ينقطع، وكأن الله اختار أن يسترد وديعته في يوم ترفع فيه الأعمال وسط شهر تنزل فيه القرآن؛ ليختم للرجل بخاتمة خير – فيما نشهد، والله حسيبه -.
ولقد وقع الخبر عليَّ مؤلمًا كأشد ما يكون الألم والوجع، وحزن لا يطفئُه سوى الاسترجاع؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون، فقد مات «الشيخ /عبد الله ماطل الجريد».
وعندما يكون الفقيد رجلًا هو «أبو بدر»، فلا حروف تصف اللوعة والألم والحرقة، ولا كلمات تكفي للرثاء، ولا عبارات توفيه حقه، ولا نظم ولا نثر يعبر عن مكانة حفرها الرجل بالأفعال والمواقف في قلوب كل من عرفه أو التقاه، أو من نالوا وغرفوا من بره دون أن يلتقوه، فقد كانت يداه بالخير دومًا ممدودة، وظلت نفسه على الدوام بالود معروفة، وعاشت روحه بالصفاء موصوفة.
ولأن الموت حقٌ على كل حي، فحين يأتينا هذا المصاب الجلل فيمن نحب؛ تختلف ردود أفعالنا معبرةً عما تختلجه صدورنا من الحزن والأسى، ونحزن؛ ولكن لا نقول إلا ما يرضي ربنا، وقد روي عن نبينا الأكرم – صلى الله عليه وسلم – قوله: «أنتم شهداء الله في الأرض»؛ وذلك عندما مرت به جنازة فذكروها بخير وأخرى ذُكرت بسوء، فرحم الله «أبا بدر»؛ فقد هيج رحيله في النفس الشجون، فأينما التفتنا وجدنا آثار خيره، ومع أيٍّ تحدثنا سمعنا كريم ذكره؛ فتذكرت قول أحدهم: «هل يبقى من الناس للناس إلا الذكرى». وصدق الشاعر إذ قال: أعمارنا أعمالنا، وبها سمت أسماؤنا نمضي وتبقى ها هنا آثارنا.
لم يكن «أبا بدر» رجل يغيب عن الحاضر كما لم يغب عن التاريخ، فبصماته وجهوده التي شارك بها في بناء الوطن لا تخفى على قريب منه كما لا يجهلها البعيد، فهو من الرعيل الذي بُنِيَ على أكتافهم الوطن، وبجهوده وأمثاله ذاك الواقع الذي نحياه في وطن الخير والأمن والأمان والرفاهة.
رجلاً بالتواضع معروف، وبالعطاء موصوف، وبالبذل مشهور، وبالكرم مغمور، ففي الرياض عاصمة مملكة الخير كان له بيت فسيح جعله نزلًا لأي أحد من أبناء منطقتنا حل ضيفًا على العاصمة، أو سافر إليها قاصدًا مصلحة، آواه بيت «أبي بدر» واحتواه كرم ضيافة الرجل، وما هذا إلا غيض من فيض مما كان يفعل رحمه الله.
وهناك ما ذكره علامة الجزيرة الأستاذ «حمد الجاسر» في كتابه: في شمال غرب الجزيرة عن رفقة الشيخ «أبي بدر» – وقت كان شابًا يافعًا – في رحلته إلى دومة الجندل، وباقي ارجا المنطقة ، وسوف أنقله بتصرف بسيط يناسب المقام: «ساعة وصلنا باب قصر الأمير وجدنا عنده شابًا عرف رفيقيَّ وعرفاه، هو الأخ عبد الله بن جريد من أهل هذه البلاد، ومن قبيلة الشرارات، وقد درس دراسة جامعية في أمريكا، واشتغل في عدة وظائف في بعض الشركات، وهو الآن من موظفي ديوان الأمير. وبعد أن عرف الأمير غايتي من القدوم دعا ذلك الشاب الذي ذكرته آنفًا، وأمره بأن يهيئ إحدى السيارات، وأن يرافقني طيلة مقامي في البلاد، وأن يذهب بي إلى أي مكان أرغب في زیارته، ولقد قام الأخ عبد الله بن جرید بتنفيذ كل ما أمر به خير قيام، وكان خير معين ومرشد وأحسن رفیق أفادني بما لديه من خبرة ومعرفة، وجعل مدة تجوالي على درجة من الراحة والامتاع».
وقد التقاه والدي سنة ١٣٧٨هـ بالمنطقة الشرقية أيام كان موظفًا في شركة أرامكو، ووالدي يبحث يومها عن وظيفة، فمازال والدي يدعو له ويذكره بالخير والثناء، ويحكي لنا عن الرجل وعن صفاته وأفعاله، وحسن استقباله وكريم ضيافته؛ فأستحضر قول البحتري:
سلامٌ على تلك الخلائقِ إنّها
مُســلَّمَــةٌ من عـــارٍ ومــأثمِ
غزيرة كثيرة متنوعة أفعال الرجل وفضائله ومناقبه، التي تركها وخلفها للناس لتبقيه بيننا بذكرها؛ وتجعل الذاكرة تحترق قبل أن تنساه، وتموت القلوب قبل أن تخفق لغيره – رحمه الله – فلقد أحدث في القلوب هوةً لا ترممها السنين، وجرحًا لا يداويه إلا الموت؛ فاللهم قد رضينا بقضائك، فأرضه بجناتك، اللهم قد صبرنا فلا تحرمنا لقاءه في جنات النعيم.
وصدق القائل:
والموت نقَّــاد على كفـــه
جواهر يختار منها الجياد.
وإن كانت نفوسنا من حزن الفراق مكلومة، وقلوبنا من ألم الفراق موجوعة إلا أننا لا نقول إلا ما يرضي ربنا؛ فاللهم إنه عبدك بين يديك أكرم وفادته، ووسع مدخله، اللهم اجزه عن الإحسان إحسانًا وعن الإساءة عفوًا منك وغفرانًا.. فعزاؤنا لأنفسنا ولمحبيه في كل مكان.. فاللهم أحسن فيه العزاء..