عام

تسعون عامًا من المجد والسؤودد

لم يتفق الباحثون – قديمًا وحديثًا – على تعريف محدد وثابت للتاريخ، فالقدماء حددوه بأنه سجلٌ لأعمال الإنسان، ولم يتفقوا على تفاصيل ذلك، ومجمل التعاريف تشمل كل شيء من المُعَاش والاجتماع والسياسة والاقتصاد والدين والفلسفة والفن وغيرها، وتشترك مجمل هذه التعاريف بالعناصر الأولية فيما بينها، وهي الإنسان والماضي والتطور؛ فالتاريخ هو سجل لأعمال الإنسان وأفكاره وتطورها، أو هو درس هذه الأعمال والأفكار وتحليلها وتعليلها.
وذهب ابن خلدون يعرفه بأنه ظاهر وباطن، في ظاهره إخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأُول تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتطرف فيها الأندية إذا غصَّها الاحتفال، وتؤدي شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال. وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير أن يعد في علومها وخليق، يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم والملوك في دولهم وسياستهم. فالتاريخ هو ذكر الأخبار الخاصة بعصر أو جيل، وحقيقته خبرٌ عن الاجتماع الإنساني. فالعناصر الأساسية للتاريخ لديه هي: الإنسان، والماضي، والتقلب، وهي مطابقة للعناصر الموجودة عند تعاريف الباحثين من القدماء والمحدثين، بل هو يزيد على ذلك من خلال وجود التفلسف والتعليل واكتشاف أسباب الحوادث، فموضوع التاريخ عند ابن خلدون هو الإنسان وأعماله بما تحمله من مبررات ونتائج وغايات.
كانت تلك مقدمة ومدخل؛ فرضتهم على المقال بنيويتي الفكرية، وتسلط التاريخ على أداة التركيب الفكري لدي؛ كوني أشرف بأن أكون باحث في مجاله، مهتم بشؤنه، مدون في أحداثه. ومن تلك الخلفية أقرر أن التاريخ سيقف وأدواته مشدوهين مبهورين أمام فترة لم تتجاوز التسعين سنة من عمر مملكة الخير والعطاء.
ففي تاريخ البشرية لمحات مضيئة وأحداث جليلة ولحظات خالدة؛ تغيِّر مسار الإنسان والمكان، وتصنع كيانات ودولًا على أيدي عظام؛ يخلِّد التاريخ ذكرهم، وتشكر الأجيال فعلهم وصنيعهم، ومن أبرز هذه العلامات الفارقة في تاريخ المنطقة: تأسيس المملكة العربية السعودية على يد الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود – رحمه الله – الذي جمع اللهُ به الشملَ، ووحَّد به القلوبَ، في دولة مباركة على أقدس بقاع الأرض.
وكبحاث في التاريخ مهتم به، أعلم مدى الإبهار في أن تخطو دولة وأمة تلك الخطى، وتسجل تلك الطفرات في فترة لم تتجاوز التسعين من عمرها، فلقد خطت مملكتنا طفرات كبيرة خلال فترة وجيزة بحسابات التاريخ؛ فتسعين سنة – فقط – فترة وجيزة قليلة لم تسجل من قبل في بناء الأوطان وإقامة الأمم، ويعجز الباحثون أن يجدوا على مر الأزمان أن حدث؛ بيد أن المؤسس – رحمه الله – وأبنائه من بعده غيروا تلك المعادلة، وأبهروا التاريخ ومؤرخيه؛ واستطاعوا أن يحدثوا طفرة نوعية يتعجب من نتائجها المبهرة القاصي والداني.
وتحتفظ الأمم في سجلها الحضاري على مدى العصور؛ بذاكرة عاشتها خلال عقود ماضية من تكوين وتأسيس، ويأتي على رأسها بكل اعتزاز التاريخ المشرف للوحدة النموذجية التي أقامها موحد الجزيرة وصقرها؛ الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل – رحمه الله -، ولابد أن تذكر في مقدمة الملاحم تلك الملحمة التاريخية التي سطرها عبر رحلة التوحيد التي أُعلن فيها عن قيام هذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية عام 1351هـ؛ فجمع الله به الشتات، ووحد به العباد، وحقق على يديه المراد.
تسعون سنة مرت منذ ذلك التاريخ والمملكة – ولله الحمد – تنعم برغد العيش مقرونًا بالأمن والاستقرار، وتستظل بالرفاهة، وتسعى للريادة، وتعمل لمصلحة المواطن، وتجتهد أن تكون مملكة خير وعطاء للجميع.
لقد عاشت الأمة السعودية خلال رحلة التوحيد مظاهر سجلها التاريخ بأحرف من نور؛ حيث بزغت مع إعلان اسم المملكة شواهد الحضارة والتنمية شيئًا فشيئًا على يدي المؤسس – رحمه الله – وأبنائه الملوك الذين جاءوا بذات الفكر والتوجه والعقلانية على مدى رحلة البناء والتنمية لوطن شامخ مترام الأطراف؛ فأقام – رحمه الله – دولة عقيدة وتوحيد، دولة تاريخ وبناء، دولة مؤسسات، ارتبطت بدول الأرض وحضاراته، وحفرت مكانتها في قلوب شعوبه وأهله، وتعاطت مع الواقع بهوية تميزها، وحفرت مكانتها بين الكبار؛ ليبرهن الملك المؤسس – رحمه الله – وأبنائه للعالم أنهم أسسوا دولة حضارية قوية تّمد يدها للآخرين بانفتاح على العالم. تسعون سنة أضحت فيها جزيرة العرب؛ مهد للتنمية، ومحضن للرفاهة والاستقرار، وموطن لإسعاد كل ملهوف
نعم تحل هذه المناسبة في عامها التسعين؛ ونحن نتفيأ في ظلال الرخاء والاستقرار والحزم والعزم بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود وولي عهدة الأمين، إذ تسارع مملكتنا الغالية منجزاتها نحو المجد والسؤود، برؤية طموحة، تعززها الثقة العاملة، والقدرة الفائقة بشقيها، وإمكاناتها الاقتصادية والبشرية التي أهلتها لتنال هذه المكانة العالمية في نفوس مواطنيها وفي نظرة العالم إليها إذ أضحت – ولله الحمد – من دول العشرين، وباتت صمام أمان للاقتصاد العالمي، وعلى أديمها أشرف المقدسات التي تيممها الوجوه والقلوب أم القرى، ومدينة الرسول صلى الله عليه وسلم..
لقد أصبحت مملكتنا، مملكة الخير والعطاء؛ ملاذًا للملهوف، وأضحت صخرة صمود تتحطم عليها مخططات المكر والإرهاب، وباتت تقدم أنموذجًا للآخرين في محاربة الإرهاب ومكافحة التطرف، وحازت أعلى درجات التميز لمكانة هذه البلاد في كفاءة أبنائها وقدرتهم على التعامل مع التقنية وكشف المخططات التي تولاها أعداء هذه البلاد فنجحت بشهادة القاصي قبل الداني.
نعيش ذكرى عزيزة على قلوبنا جميعًا أبناء هذه البلاد؛ نتعايش فيها عبر منظومة متكاملة من النهضة والعطاء، والتنمية والرخاء، قام بها أبناء الملك المؤسس حتى عشنا العهد الزاهر، والجد الزاخر لخادم الحرمين الشريفين سلمان بن عبد العزيز -رعاه الله -، ومعاونة ولي عهدة الأمين الأمير محمد بن سلمان – حفظه الله وأيد خطاه – الذين انطلقا ببلادنا نحو آفاق عالية، وأهداف سامية؛ لتحقيق رؤية الخير 2030م ، فحققوا في فترة وجيزة بمشيئة الله تعالى ثم بعزم أبناء هذا الوطن وطموحهم؛ نقلة نوعية لمكانة المملكة على كل الأصعدة، فحققوا رفاهة الحاضر وسعوا لتكون سمتًا للمستقبل في جميع مجالات الحياة.
ولا تجد منطقة في المملكة المترامية أطرافها، المتسعة رقعتها، إلا ويشعر أهلها بهذه الطفرة من التقدم والنماء، ويشعر باهتمام قيادتنا وكأن يد خيرهم، وكريم بذلهم، وعميم اهتمامهم، منصب على منطقته دون غيرها، وليست منطقة الجوف – والتي أفخر أنني أحد أبنائها – إلا وتكاد تنطق بما حبتها قيادتنا الرشيدة من عناية واعتناء، على يد قياداتنا الرشيدة، بدءً من اختيار الأصلح لقيادتها، الأحرص على نهضتها، منذ عهد المؤسس – رحمه الله – وسار أبنائه من بعده على نفس نهجه، حتى كان أخر مثال لذلك أميرها المفضال صاحب السمو الأمير فيصل بن نواف بن عبد العزيز – حفظه الله – وسعيه الدؤوب لتحقيق مراد ولاة الأمر من الارتقاء ببقاع الوطن، وتحقيق رفاه المواطن.
إنَّ احتفال بلادنا، قيادةً وشعبًا، بيومها الوطني التسعين – هذا العام – هو شكرٌ للمولى، عز وجل، على ما امتنَّ به علينا من نعم، وعرفان بجميل – ننعم في رغده – لمن صنعوا هذا الكيان الشامخ، ودرس لتعميق مشاعر الوطنية والانتماء لجيلنا وللأجيال القادمة، وصدق أمير الشعراء شوقي إذ يقول:
إنما يقدر الكرام كريم​​​ويقيم الرجال وزن الرجال
وإذا عظَّم البلادَ بنوها​​​أنزلتهم منازل الإجلال
توجت هامهم كما توّجوها​​بكريم من الثناء وغال
إنَّ لهذه البلاد العظيمة حقًّا علينا، وواجبًا يتجدد كلما تنسَّمنا هواءها وكلما شعرنا بإحساس الأمن الذي تفتقده كثيرٌ من شعوب العالم، وبها نفخر ونباهي.. وكيف لا وهي أضحت بعد تسعين سنة – فقط – محط الأنظار ومضرب الأمثال في الرخاء والنعم..
إننا إذ نحتفل بيوم بلادنا الوطني التسعين، فإننا نحتفي بوطن لا يحل الذم ساحته، وطن متفرِّد في عطائه، متفرِّد في إنجازاته، متقدم في مكانته.. وطن رايتُه كلمة التوحيد، وجغرافيتُه قِبلةُ الملايين، وقيادته نعمة من المولى عز وجل للعالمين، وترابه دونه الأرواح والمهج.
فهنيئا لوطن النعم السابغات يومه الوطني، وعرسه الزاخر، ومجده الزاهر.. أعاد الله على بلادنا يومها الوطني وهي في نعم غامرات، مُسارِعة إلى المجد والعلا، ممجِّدة خالق السماء.