الأخبار المحلية

المنبر النبوي تُرعة من تُرع الجنة وحدٌّ ومعلمٌ للروضة الشريفة

يزخر المسجد النبوي الذي يفد إليه المسلمون من أصقاع الأرض للصلاة فيه والتشرُّف بالسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى صاحبيه -رضوان الله عليهما-، بعديدٍ من المعالم المرتبطة برسولنا الكريم؛ منها منبره -عليه أفضل الصلاة والسلام- الذي هو قطعة من قطع الجنة، كما أخبرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: “منبري على حوضي ومنبري على تُرعة من ترع الجنة وإن قوائم منبري هذا على رواتب من الجنة”.

ويُعرف المنبر في اللغة، بالشيء المرتفع وبه سُمي المكان الذي يرتقيه الخطيب في المسجد، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب قائماً مستنداً إلى جذع نخلة منصوب في المسجد، فلما شقَّ عليه القيام صُنِعَ له المنبر من ثلاث درجات ووضع في الجانب الغربي من مصلاه، فكان يجلس عليه ويعظ الناس ويراه كل مَن حوله، كما أن للمنبر النبوي فضلاً، وذلك بأن يكون على حوضه -عليه الصلاة والسلام- يوم القيامة، فعن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أَن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي”، وعن أبي سعيد قال خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن في المسجد وهو عاصب رأسه بخرقة في المرض الذي مات فيه، فأهوى قِبل المنبر فأتبعناه فقال: “والذي نفسي بيده إني لقائم على الحوض الساعة”، ومما يدل أيضاً على فضل المنبر النبوي وشرفه، أنه اشتدّ النكير على مَن حلف عنده بيمينٍ آثمة ومتوعد بالنار، فعن جابر بن عبدالله الأنصاري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال “من حلف على منبري آثماً تبوأ مقعده من النار”.

وبيّن أهل العلم عدة معانٍ كلها محتملة لمعنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “ومنبري على حوضي”، منها أن المنبر النبوي الشريف بعينه يعيده الله -سبحانه- يوم القيامة كما يعيد سائر الخلائق، ويوضع على حوضه في ذلك اليوم، ويخلق الله -سبحانه- له منبراً -أي منبر- فيجعله على الحوض تكريماً له وتشريفاً، وأن الحضور عند المنبر الشريف وملازمة الأعمال الصالحة بالقرب منه يورد الحوض ويوجب الشرب منه، وقال السمهودي؛ يظهر لي معنى رابع وهو أن البقعة التي عليها المنبر تُعاد بعينها في الجنة ويُعاد منبره ذلك على هيئة تناسب ما في الجنة، فيجعل المنبر عليها عند عُقْر الحوض، وهو مؤخره، وعن ذلك عبّر بـ “ترعة من ترع الجنة”.

وللمنبر النبوي درجات تكاد الروايات الواردة تتفق على أن المنبر النبوي صُنع من درجتين غير المجلس، كما روى أبو داود؛ بإسناد جيد، أن تميماً الداري؛ اتخذ له منبراً من مرقاتين. قال السمهودي: أي غير المقعدة وكذا روى ابن سعد؛ في الطبقات بسنده عن أبي هريرة؛ فذكر الحديث وفيه فأرسله إلى أثلةٍ بالغابة فقطعها ثم عمل منها درجتين ومقعداً”، وعن طول المنبر النبوي وعرضه فأحسن من فصل القول في وصف طوله وعرضه الذي صنع للنبي -صلى الله عليه وسلم- من المؤرخين ابن زبالة؛ رحمه الله، المتوفَّى في حدود سنة 200هـ، حيث قال: وطول منبر النبي -صلى الله عليه وسلم- ذراعان في السماء، وعرضه ذراع في ذراع وتربيعه سواء، وفيه مما كان يلي ظهره إذا قعد ثلاثة أعواد تدور، ثم قال وطول المجلس؛ أي مجلسه -صلى الله عليه وسلم- شبران وأربع أصابع في مثل ذلك مربع وما بين أسفل قوائم منبر النبي -صلى الله عليه وسلم- الأول إلى رمانته خمسة أشبار وشيء، وعرض درجه شبران، وطولها شبر، وطوله من ورائه يعني محل الاستناد شبران وشيء، كما للمنبر من أسفله إلى أعلاه سبع كُوىً مستطيرة من جوانبه الثلاثة، ثم قال وفي منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خمسة أعواد من جوانبه الثلاثة فذهب بعضها.

وشهد منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عديداً من التطورات، حيث كان المنبر على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين يتكوّن من درجتين ومقعد، ولما انتقل الأمر إلى الدولة الأموية وفي خلافة معاوية -رضي الله عنه- زاده مروان بن الحكم؛ ست درجات من أسفله فصار تسع درجات بالمجلس، يقف الخلفاء على الدرجة السابعة، وهي الأولى من المنبر الشريف، ووصف ابن زبالة؛ شكل المنبر بعد الزيادة التي أضافها مروان بن الحكم؛ فيقول وذرع طول المنبر اليوم أربع أذرع وعرضه ذراع وشيء يسير، وما بين الرمانة المؤخرة والرمانة التي كانت في منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القديم ذراع وشيء، وما بين رمانة منبر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الرمانة المحدثة في مقدم المنبر ذراعان، وعظم الذراع وما بين الرمانة والأرض ثلاث أذرع وشيء، وطول المنبر اليوم من أسفل عتبته إلى مؤخره سبع أذرع وشبر، وطوله في الأرض إلى مؤخره ست أذرع.

وفي عام 654هـ، احترق المسجد النبوي الشريف واحترق فيه المنبر أيضاً، قال ابن عساكر -رحمه الله-: “قد وُضعَت بقايا المنبر المحترق في الدكة أو الحوض المرمري الذي كان أسفل المنبر وبُني فوقها بالآجر، بحيث سد جوف ذلك الحوض كله، فصار دكة مستوية”، ثم أرسل الملك المظفر صاحب اليمن سنة 656هـ منبراً جديداً من الصندل له رمَّانتان، فنصب في موضع المنبر النبوي الشريف، وبقي عشر سنوات يُخطب عليه، أما في سنة 664هـ أرسل الظاهر بيبرس البندقداري؛ منبراً جديدا فقلع منبر صاحب اليمن ونصب منبر الظاهر محله وخُطب عليه حتى سنة 797هـ، حيث بدأ فيه أكل الأرضة، أما في عام 797هـ فقد أرسل الظاهر برقوق؛ منبراً جديدا حل محل منبر الظاهر بيبرس.

وأرسل المؤيد شيخ عام 820 هـ منبراً جديداً حل محل منبر الظاهر برقوق ووصفه السمهودي؛ فقال وطول هذا المنبر في السماء سوى قبته وقوائمها؛ بل من الأرض إلى محل الجلوس ست أذرع وثلث، وارتفاع الحافتين اللتين يمين المجلس وشماله ذراع وثلث، وامتداد المنبر في الأرض من جهة بابه إلى مؤخره ثماني أذرع ونصف راجحة، وعدد درجه ثمانية، وبعدها مجلس ارتفاعه نحو ذراع ونصف، وقبته مرتفعة، ولها هلال قائم عليها مرتفع أيضاً، وما أظن منبراً وضع قبله في موضعه أرفع منه وله باب بصرعتين، وفي عام 998 هـ أرسل السلطان مراد العثماني؛ منبراً مصنوعاً من الرخام جاء في غاية الإبداع ودقة صناعته وروعة زخرفته ونقوشه وطُلي بماء الذهب، فنقل منبر قايتباي؛ إلى مسجد قباء، ووضع منبر السلطان مراد؛ مكانه وهو الموجود في المسجد النبوي الشريف الآن؛ حيث صُنع منبر السلطان مراد من المرمر النقي، وهو غاية في الجمال ودقة الصناعة، يتكون من اثنتي عشرة درجة؛ ثلاث خارج الباب، وتسع داخله، تعلوه قبة هرمية لطيفة محمولة على أربعة أعمدة مضلعة رشيقة من المرمر، وبابه من الخشب القرو، يتكون من مصراعين مزخرفين بزخارف هندسية إسلامية مدهون باللون اللوزي الجميل، كُتب فوقه أبيات شعر، وفوقه شرفات هن آية في الروعة كُتب في وسطها (لا إله إلا الله محمد رسول الله).

وفي العهد السعودي، اهتمت حكومة المملكة بهذا المنبر، وشملته بالرعاية والعناية المستمرتين، وتقوم بطلائه بماء الذهب، كلما دعت الحاجة إلى ذلك، ووضعت عليه ورقاً شفافاً لحمايته من اللمس؛ حفاظاً عليه وليبقى شاهداً على دقة الفن الإسلامي وإحدى أعاجيبه الباقية.