“الطريق إلى مكة”.. مكتبة الملك عبدالعزيز تبتكر الموروث لاستشراف المستقبل
لا يشكل التراث لدى مكتبة الملك عبدالعزيز حالة عابرة من حالات العمل الثقافي، لكنه يتأتى في القلب من إستراتيجيتها المركزية من أجل تقديم ثقافة معرفية نوعية للقارئ العام والمتخصص، فالتراث يشكل لديها منظومة معرفية شاملة في سياق الفضاء الثقافي السعودي العربي الإسلامي الذي يطل على العالم بميراث عريق على مختلف المستويات من التنوع الثقافي، والتاريخي، والأدبي.
وفي يوم التراث العالمي الذي يوافق 18 أبريل الجاري، تواصل المكتبة إبراز جهودها المعنية بعناصر متعددة من الموروث الثقافي الذي يجعلها واحدة من أهم المكتبات بالعالم التي تمتلك ذخيرة تراثية متنوعة في المجالات كافة من مخطوطات ووثائق وكتب نادرة ومسكوكات وصور، وخرائط نادرة.
وهي بهذه المقتنيات إنما تعمل على حفظ الموروث وإعادة ابتكاره وإنتاجه بتحقيقه وطبع فلذاته من جهة، فيما تعمل على استشراف المستقبل عبر قراءة التراث والكشف عما ينطوي عليه من مكامن حضارية تعمل على تشكل رؤى ثقافية تتسق وتحولات العصر فيما تعمل على تأكيد الهوية والثقافة السعودية.
ولم تكتف مكتبة الملك عبدالعزيز بإعداد مكتبة على طراز علمي وتقني منظم، ومفهرس وفقاً لأحدث مناهج الفهرسة العالمية، لكنها شكّلت لنفسها فضاء معرفياً جسوراً تمثل في القيام بإصدار مجموعات كبيرة من الكتب المتخصصة في تاريخ المملكة وفي العالمين العربي والإسلامي، وإبراز الأوجه المتميزة في الحضارة العربية الإسلامية، وعقد الندوات الدولية عن تراث العالم العربي والإسلامي، خاصة ندوة الأندلس، وندوة مصادر المعلومات في العالم الإسلامي، كما أنها أنشأت قاعة خاصة بتاريخ الملك عبدالعزيز آل سعود مؤسّس المملكة وجهوده في بناء المملكة وتوحيدها، فيما تواصل تفعيل منظومتها المعرفية بما يتوافق ورؤية المملكة 2030 ويتوافق مع الاستراتيجية الثقافية التي طرحتها وزارة الثقافة.
مخطوطات وكتب نادرة
وأنشأت المكتبة قسم المخطوطات مع بداية تأسيسها عام 1408هـ / 1988م، للمساهمة في حفظ وحماية التراث العربي والإسلامي، ومن ثم إتاحته للباحثين والمحققين والمهتمين في هذا المجال. وقد نشرت أخيراً مخطوطة نادرة لديوانَي أبي الطيب المتنبي، فيما تواصل الكشف عن مقتنياتها التراثية النادرة من خلال معارضها في المملكة وفي معارضها الدولية بالعواصم العالمية، وقامت مكتبة الملك عبدالعزيز العامة بالرياض، السباقة في نشر التراث إلى تصوير جميع مخطوطاتها رقمياً، حيث بلغت أكثر من مليونَي صورة ووضعها على اسطوانات مدمجة (سي دي).
وتتوافر في المكتبة مجموعة من الكتب النادرة ذات الطبعات الأوروبية القديمة والنادرة وتتكوّن من (78) كتاباً عن سيرة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-. وتضم المجموعة أيضاً (113) كتاباً مترجماً باللغات الأوروبية القديمة للقرآن الكريم، إضافة إلى (55) كتاباً عن الدراسات القرآنية، و(54) كتاباً يتعلق بالمصادر الإسلامية.
وتمثل هذه المجموعة بدايات الاهتمام الأوروبي بالقرآن الكريم ودراساته. كما قامت المكتبة باقتناء مجموعة من الطبعات العربية التي طبعت في أوروبا عامي (1592-1593)، وهذه الطبعات تدخل ضمن اهتمامات المكتبة بالتراث العربي والإسلامي الأصيل؛ حيث تضم كتباً نادرة جداً، مثل كتاب «القانون» لابن سيناء، وكتاب «أسرار البلاغة» لعبد القادر الجرجاني، تحقيق هـ. رايتر، وكتاب «حوليات نشر المثاني» تأليف بليونس الحكيم، تحقيق أوسلا ويسر، وتفسير «كتاب ريساغوجي» لفرفوريوس، تأليف أبي الفرج أبن الطيب، تحقيق كواميجيكي، وكـتاب «علم الهيئة الإسلامي»، تأليـف جـلال الـدين السـيوطي، تحـقـيق أنطون م. هاينين.
وتضم (8271) عنوان كتاب نادر عربي مفهرس ومصنف ومدخل في قاعدة، كما تقتني المكتبة مجموعة من المكتبات الخاصة، منها: مكتبة المستشرق الأمريكي جورج رنتس، وتضم هذه المكتبة الخاصة عديداً من الكتب والمخطوطات والخرائط والوثائق النادرة وتحتوي على كتب باللغة العربية وتقريباً (3265) كتاباً باللغات الأجنبية. ومكتبة حمزة بوبكر عميد المعهد الإسلامي وإمام مسجد باريس سابقاً، وهي عبارة عن مكتبة متكاملة بها (17170) عنواناً تقع في (19821) مجلداً من كتب ودوريات وصحف ومخطوطات ووثائق وقصاصات صحفية ودراسات وكتب نادرة مهمة باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والروسية وتضم مجموعات مقتناة من كتب العلوم الشرعية والأدبية وأدب الرحلات ووصف البلاد وتراثها وعاداتها وتقاليدها وترتبط بالمملكة العربية السعودية والخليج العربي والعالم الإسلامي.
صور ووثائق
تقتني مكتبة الملك عبدالعزيز العامة أرشيفاً للصور يعد من أندر المجموعات المصورة في العالم، التقطها أشهر مصوري الشرق والمنطقة العربية منذ بدايات التصوير الشمسي عام (1740م)، إضافة إلى الصور التي التقطها الرحالة وربان السفن والعسكريون والمبعوثون والقناصل والسياسيون الذين زاروا المنطقة منذ منتصف القرن الماضي حتى بدايات القرن الحالي.
هذا الأرشيف التاريخي من الصور يعد أحد أهم المصادر الفريدة في العالم التي تجسّد صورة المنطقة العربية في الماضي.
ويتوافر لدي مكتبة الملك عبدالعزيز العامة نحو (365) صورة مع أصولها لم تنشر من قبل للحرمين الشريفين، قام بتصويرها المصور العالمي المصري أحمد باشا حلمي، الذي كُلف من قِبل الملك فاروق بتصوير الحرمين الشريفين أثناء دخول الملك عبدالعزيز ــ طيّب الله ثراه ــ مكة المكرّمة والمدينة المنوّرة، إضافة إلى مجموعة ألبومات تصور خط سكك حديد الحجاز وبعض مناطق المملكة.
وتضم عدداً من الوثائق التاريخية منها: مجموعة وثائق جورج رنتس: (باللغات الإنجليزية والفرنسية والعربية) تغطي الفترة من عام 1930م إلى عام 1960م، ومجموعة وثائق عبدالرحمن عزام: (باللغتين العربية والإنجليزية) وتغطي الفترة من عام 1925 إلى عام 1960م، كما تمتلك المكتبة (700) خريطة من الخرائط النادرة، خاصة عن الجزيرة العربية منذ عام (1482م)، بعضها باللغات اللاتينية القديمة.
وفي مجال العملات والمسكوكات النادرة حرصت إدارة مكتبة الملك عبدالعزيز العامة على اقتناء أكثر من (7600) عملة نادرة ما بين ذهبية وفضية وبرونزية، يعود تاريخها إلى مختلف العصور الإسلامية.
رحلات عالمية للمملكة
وأصدرت مكتبة الملك عبدالعزيز العامة مجموعة كبيرة من الكتب المترجمة التي تهتم بتاريخ المملكة ومراحل تطورها، حيث ركزت في إصداراتها على كتب الرحلات التي تمثل أفقاً مهماً في مجال الثقافة والمعرفة والبحث، لهذا عُنيت المكتبة بإصدارها وترجمتها، كما عُنيت بتشكيل مجموعات كبيرة من هذه الكتب التي تهتم بتاريخ المملكة العربية السعودية قبل التأسيس وبعده، وتهتم كذلك بتاريخ شبه الجزيرة العربية وعاداتها وتقاليدها، حيث انتشرت هذه الرحلات عبر فترات زمنية تقع ما بين القرن السادس عشر حتى العشرين الميلادي، ينتمى كتابها إلى عدة بلدان أوروبية وشرقية مثل: ألمانيا، والنمسا، وبريطانيا، وفرنسا، واليابان.
ومن أبرز هذه الكتب المترجمة التي صدرت ضمن برنامج النشر بالمكتبة:” شهور في ديار العرب” من تأليف العلامة مسعود عالم، ومن ترجمة وتعليق الدكتور سمير نوح، حيث يسلط الكتاب الضوء على فترة مهمة من تاريخ المملكة العربية السعودية من النواحي الثقافية والاقتصادية، كما يتحدث المؤلف بأسلوب مميز عن أيامه في الرياض ولقاءاته مع العلماء والمشايخ، ثم يصف لقاءه بالملك عبدالعزيز – رحمه الله – ومدينة الرياض والتعليم فيها، ولقاء الملك عبدالعزيز بالعلماء في مكة المكرّمة، ويؤكد المؤلف إعجابه الشديد بشخصية الملك عبدالعزيز وأسلوبه في الحكم، وطريقته في معاملة حاشيته ومرافقيه وتفقده أحوال المحتاجين من رعيته.
ويكشف كتاب:” ياباني في مكة” من تأليف: تاكيشي سوزوكي، وترجمة د. سمير نوح وسارة تاكاهاشي، عن جوانب مجهولة من أدب الرحلات الياباني، كما يكشف عن نمط أدبي فريد، فمؤلفه ياباني مسلم يجيد التعبير عن أحاسيسه بدقة، حيث كتب المؤلف عن الإسلام ومبادئه، ثم عن الرحلة ذاتها والظروف التي دفعته للقيام بها، مركزاً على الأمور الجغرافية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والعمرانية، متحدثاً عن سفره إلى مكة المكرّمة بالباخرة من اليابان إلى مصر مروراً بقناة السويس ثم وصوله إلى المملكة العربية السعودية وأدائه لمناسك الحج، كما وصف في فصل مستقل لقاءه بالملك عبدالعزيز – رحمه الله –.
وفي كتاب: “الطريق إلى مكة” من ترجمة د. رفعت السيد علي، يبرز محمد أسد، مؤلف الكتاب، وهو من أهم رجالات الغرب الذين أسلموا خلال القرن العشرين وتركوا بصمة كبرى في الثقافة العربية والإسلامية والأوروبية، يبرز سيرته الذاتية في الرحلة حيث خرج من بلاد الغرب معتزاً بعاداته وتقاليده، موفداً من إحدى الصحف الغربية إلى بلاد الشرق لكي يقدم تقارير صحفية عن المنطقة بشكل عام.
أفق تاريخي
ومن الكتب المهمة التي تتناول جوانب من التاريخ السعودي كتاب: “في شبه الجزيرة العربية المجهولة” من تأليف آر إي تشيزمان، و”فيلبي الجزيرة العربية” من تأليف إليزابيث مونرو.
ويأتي كتاب: “شبه الجزيرة العربية في كتابات الرحالة الغربيين في مائة عام” من تأليف البرخت زيمة ليقدم لنا صورة بانورامية للرحلات التي قام بها الرحالة الغربيون، حيث يستعرض الكتاب ما كتبه الرحالة الألمان وغيرهم عن شبه الجزيرة العربية في القرنين 17-18 م، وما ذكروه من أوصاف الأماكن الجغرافية والحوادث التاريخية، ويخصص المؤلف جانباً كبيراً من الكتاب للعرض الخاص بجغرافية وتاريخ وسط وشمال شبه الجزيرة العربية مع التعليق على أهم ما سجّلوه عن جغرافية البلاد التي زاروها وأحوالها الاجتماعية وما يسودها من عادات وتقاليد.
أما كتاب: “الحج إلى مكة” وقد أصدرته المكتبة باللغة الإنجليزية للمؤلفة الليدي ايفلين كوبولد، -قبل أن يترجم للعربية- فيشتمل على مقدمة ضافية عن حياة المؤلفة والمسلمين في المملكة المتحدة، والدعوة الإصلاحية في الجزيرة العربية، وعن الملك عبدالعزيز – رحمه الله – كما يتحدث عن رحلة أول امرأة أوروبية مسلمة لمكة المكرّمة لأداء فريضة الحج عام 1934م والكتاب ذو قيمة علمية وتاريخية وأدبية كبيرة لفترة مهمة من تاريخ المملكة العربية السعودية.
وعملت المكتبة على إصدار طائفة من الكتب التوثيقية المصورة التي تعنى بفلذات التراث العربي والإسلامي، ومن بين هذه الكتب التي تشكل أسفاراً من المعرفة تلك الكتب التي أصدرتها عن الخيول والجمال والفروسية، والصقور، وطرق الحج، والحليّ ، فضلاً عن الكتب التي تتناول البقعتين الطاهرتين مكة المكرّمة والمدينة المنوّرة.
في هذا السياق أصدرت مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، بالتعاون مع مؤسسة ليان الثقافية، كتاب «الجمل في الفن القديم والتاريخ والثقافة بالمملكة العربية السعودية» للدكتور مجيد خان.
وحول الحلي النسائية بجزيرة العرب أصدرت مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، كتاباً مصوراً يرصد فيه مؤلفه أنواع هذه الحلي ومكوناتها، وأسمائها، بعنوان: “الحلي التراثية لنساء وسط الجزيرة العربية” من تأليف: عباس بن محمد آل عيسى، ويستعرض الكتاب الحلي النسائية للفترة ما بين القرن (11) إلى أواخر القرن (14) الهجري.
يُذكر أن اليوم العالمي للتراث جاء كاقتراح من المجلس الدولي للمعالم والمواقع (ICOMOS) بتحديد يوم التراث العالمي بتاريخ 18 أبريل 1982م، ووافقت عليه الجمعية العامة لليونسكو في عام 1983، وذلك بهدف تعزيز الوعي بأهمية التراث الثقافي للبشرية، ومضاعفة جهودها اللازمة لحماية التراث والمحافظة عليه والعمل على كشف ما يتضمنه من مضامين وأفكار ورؤى تسهم في تعزيز الفكر الإنساني.