المعمر: فالح بن بتلا المخاريم : عاصرت زمان جبّار، وحجيت على ظهر المطية، وأكلت من لحم الصيد قبل انقراضه

حاوره: مسعود بن فهد المسردي
في بيت من الطراز الحديث على مدخل محافظة ضرما “عاصمة البطين”، يعيش الشاعر الفحل: “فالح بن بتلا المخاريم”، أحد أشهر البدو الذين غنوا للصحراء، ووصفوا صلفها وشدتها، وتغيراتها الاجتماعية والبيئية، في قصائد رنانة تناقلها الرواة وسارت بها العيس عبر مسافات الجزيرة الشاسعة، وكان بمثابة الحارس الشخصي لقبيلته على الرغم من فقده لبصره، يدافع عنها بلسان أحدّ من السيوف المصلته، غير أننا لم نزره نبحث عن روحه الشاعرة، وإنما كان بحثنا عنه ك “معمّر”، خاض معترك الحياة وذاق حلوها ومرها في فترة تزهو على تسعة عقود ونصف.
وجدت اللطف والسماحة وكرم الأخلاق في أبهى صوره، متمثلاً في هذا الشيخ الذي لم يخلع عباءة الشباب بعد، وإنما زينها برداء الحكمة التي منحته إياه خبرة الحياة الطويلة.
تحدثت إلى “ابن بتلا”، وسامرته ووجدت فيه كل ماهو جميل؛ سوى ما وصفه به مارسيل صاحب: (كتاب البدوي الأخير)، ولولا صداقتي بمارسيل ومعرفتي بموضوعيته، لقلت إنه تجاوز حد المبالغة إلى وصف آخر.
هل بالغ مارسيل؟! أم أن ابن بتلا تغيّر وهذه سنة الحياة، كل هذا جائز، المهم أنني قابلته ودثار الوقار يجلله، وأخذت منه معلومات تضرب من أجلها أكباد الإبل، فحيّا هلا إلى هذا اللقاء من سلسلة “اللقاء مع المعمرين”.
س١/ يود القارئ الكريم أن يتعرف على شخصكم الكريم.
ج١/ اسمي: فالح بن حمود بن عبيد، من الضبان من المخاريم من قبيلة الدواسر، ولدت في بلاد قومي قبل زمان “جبار” ب (١١) عاماً، أي في حدود عام ١٣٤٩هـ ، واكتسبت لقب ابن بتلا من جدتي لوالدي، فلا أكاد أعرف إلا به أنا ووالدي من قبلي.
لم أتعلم، ولم ألتحق بأي وظيفة حكومية، فقد عشت في الصحراء أذرع الأرض شمالاً وجنوباً وراء إبلي، حتى كف بصري، فاضطررت إلى المكوث في الهضب بجنوب نجد، مسقط رأسي، ولما طعنت في السن آثرت الاستقرار وترك حياة البداوة والترحال، فانتقلت من الهضب إلى عدد من قرى ومحافظات نجد حتى وضعت عصا التسيار مع أبنائي وأحفادي في محافظة ضرما، وعمري الآن (٩٥) عاماً، وأسأل الله حسن الختام.
س٢/ ماهي الأزمنة المسماة التي عاصرتها؟
ج٢/ عاصرت “زمن جبار”، فقد كان عمري آنذاك ١١ عاماً، حيث جبر الله الناس بعد سنيات من القحط، فهطلت أمطار غزيرة متتالية استمرت طيلة فترة الوسمي والربيع والصيف والكنة، وكان ذلك على مناطق واسعة من بلادنا، وصار النبات من عظمه كأنه شجر، وبقي الناس يرعون من قصبه ثلاث سنوات متتالية.
ويحدثني والدي أنه حدر بغنم له ليبيعها في سوق “الأفلاج”، في زمن جبار، ووجد أناساً في السوق؛ يذكرون أنهم قشعوا نبتة “حماضة” عظيمة جداً ووزنوها فبلغت ١٢ وزنة، أي ما يبلغ قدره اليوم (١٧) كيلو جرام.
وعاصرت زمان “خريف ابن عايض”، وسمي با ابن عايض، وهو كبير “آل فهاد”، من قبيلة يام الذي غرق هو وحلاله في سيل “الشطبة”، جنوب الأفلاج، وهو بعد “زمان جبار”، بسنوات، وعاصرت “زمان الرفروف”، وهو مرض يشبه الجدري لكنه خفيف يصيب الجسم ببثور كالتي تصيب مريض الحصبة والعنقز، ولم يحصل فيه وفيات، وكنت من ضمن من أصيب بذلك المرض وتعافيت منه.
وعاصرت” زمان العجين”، وهذا قريب، حيث فاع علينا طحين الذرة، وكنا نعجنه على هيئة كرات، ونطعمه الإبل قبل وفرة الأعلاف الحالية.
س٣/ هل مر بك الجوع الذي نسمع به من قبل الأجيال السابقة؟
ج٣/ نعم مر بي، وقد يتأخر عنا المديد فنجوع بسبب عدم توفر الطعام لعدة أيام، وقلة الطعام هي السمة الغالبة في تلك الأزمان؛ لكنها في القحط أكثر منها في أوقات الخصب.
س٤/ ماهي الأسواق التي كنتم تمدون إليها من أجل جلب الطعام؟
ج٤/ كنا نمد لوادي الدواسر و الأفلاج وحوطة بني تميم، ونجلب منها التمر.
أما “بيشة”، فنأتي منها بالتمر والقهوة والبر، وكنا نبعد النجعة فنمد إلى سوق خميس عبيدة الذي يعقد في “سراة عبيدة”، في الجنوب، وكانوا يضعون حب البر والشعير والذرة في (جفر) حفر مفروشة، ويكيلون لمن يشتري بالصاع؛ فإن كانت مادتنا من المال جيدة أخذنا براً، وإن كانت ضعيفة أخذنا ذرة أو شعير، وكنا نشتري منها القهوة أيضاً
أما “نجران”، فكنا نتهيب من الذهاب إليها؛ لأن دونها مظماة وصحار مهلكة ومفاوز بعيدة.
س٥/ متى كانت أول حجة لك؟ وأين كان طريقكم؟ وهل كانت على المطايا أم السيارات؟
ج٥/ كانت عام ١٣٦٤هـ، وعمري ١٥ سنة تقريباً، معنا ثلاث مطايا أنا وأخي أرداف، ورجلين آخرين أملاط، كل واحد منهما على مطية مستقلة، وطعامنا الدهن والتمر والبر.
تحركنا من أهلنا في قاعة “سِمَر”، ببدوة السفلى بهضب الدواسر، ثم شربنا من صلاصل، ثم مررنا ببني حوفيّة، ثم جزعنا عرق سبيع، فالخرمة، ثم تركنا حضناً عن يسارنا، ثم بريم فركبة، حتى دخلنا في الجبال الموصلة إلى مكة.
ولم يصادفنا بحمد الله في الطريق ما يعكر صفو رحلتنا في الذهاب أو الأياب، وهذا من لطف الله وكرمه.
س٦/ ماهي الديار التي تشدون إليها بمواشيكم وترتعونها وقت الربيع؟
ج٦/ قبل وفاة الملك عبدالعزيز بعام رحلنا إلى الجنوب جهات تثليث والثفن، والحصير، والقهرة، وعين قحطان، ومرات أخرى حدرنا حتى وصلنا الصمان، وباقي سنواتنا في نجد نصل إلى شقراء وعريق البلادين والسروك ( السر)، ونعود جهات بلادنا في هضب الدواسر وأكثر مكوثنا فيه.
س٧/ أين كنتم تقطنون في فصل الصيف؟
ج٧/ نقطن على الآبار التي في الهضب، وهي كثيرة ومتفرقة، كل حسب منزله، وغالباً لا نتجاوز تلك الديار.
س٨/ دام أن الحديث انجر إلى المياه، نريد منك أن تذكر لنا أشهر آبار ومياه الهضب؟
ج٨/ آبار الهضب كثيرة؛ لكنها قليلة الماء تجم وقت الخصب وتغور وقت الجدب،
ومن أشهرها مياه الحمرة وهي: ماسل ومويسل وسقمان وفغران، ومياه المجامع وهي: عراعر وثريا وسمر ، ثم مياه أخرى مثل: الفقيقي وعيبان وخزام وبلثقا وجخجوخ.
وهناك آبار حديثة مثل: النميص وعسيلة، وماء العسيلة خور لا يشرب.
س٩/ حكى لي أحد كبار السن أن ماء سقمان “مر”، وأنه يتعب من يشربه قديماً؟
ج٩/ هذا الكلام عارٍ من الصحة، فسقمان من “أعذب”، مياه الهضب، وللمعلومية؛ فإن غالب مياه الهضب عذبة سوى: الفقيقي وخزام وعيبان والعسيلة. أما بلثقا فماؤها دبج.
س١٠/ حدثنا عن آبار جخجوخ، وهل صحيح أن حاج الأفلاج يشرب منها؟
ج١٠/ “جخجوخ”، آبار قديمة جداً في الهضب في وسط شعب يتجه سيله إلى الغرب، وهي آبار كثيرة؛ لكنها ليست عميقة، وماؤها حلو لكنه ثقيل.وقد دفنتها الحكومة عام ١٤٢١هـ.
وأما قول: إنها من موارد حاج الأفلاج فهذا غير صحيح، وهي بعيدة كل البعد عن طريق أهل الأفلاج.
س١١/ هل عاصرت الصيد البري دقه أو جلّه؟ وهل قنصته؟
ج١١/ عاصرت الوعول والظباء بأنواعها الخضري والريمي والأدمي، أما الريمي فكان في الرمال، وأما الخضري والأدمي، فكان يرب حواف الأودية والشعاب ومقاطع الجبال في الهضب.
أما دق الصيد فما أكثره مثل: الأرانب والوبران والحبارى والقهابا والقطا وسائر الطيور.
أما قنص الصيد فنظري ضعيف منذ صغري، ولا أستطيع تحقيق رميها، وكان الذي يقنص لنا الصيد هو أخي الأكبر فقد اشترى له والدي بندق تسمى أم هليل من نوع “أم تاج”، وكان يعقر بها الوعول والظباء والضباع ونأكل منها، ولا تسأل عن لذة وطعم لحم الصيد آنذاك.
س١٢/ لمْ تحدثنا عن المها الوضيحي والنعام؟
ج١٢/ المها عاصرتها ولم أرها بعيني، لكنهم كانوا يذكرونها حولنا في مهامل الجنوب بين الهضب وبيشة، وجنوب وادي الدواسر، و العارض المندفن.
أما النعام فقد انقرض منذ زمن بعيد ولم أعاصره، لكن كبار السن الذين عاصرتهم رأوه في ديارنا في الهضب.
يحدثني أحدهم ويقول: سرت أنا ووالدي (ميلة الفي)، أي قبيل الظهر، على ذلول ومعنا فرس، من مجامع الهضب إلى الحمرة، فلما أقبلنا على “وادي الحمل”، وكان مكتظاً بشجر السمر والسلم والسرح، رأينا في أظلة الشجر ما يشبه العرب العزيب، منتشرين في أطراف الوادي، فلما قربنا منهم، فإذا به نعام ينفر من كل مكان ويرفع أجنحته حتى استوى وهو يعدو في الأرض البراح، فهالنا ما رأينا، عندها قال والدي: قيّد ذلولك وامكث عندها، وركب فرسه لايلوي على شيء، خلف ذلك النعام، واستفرد بربداء عزلها عن الجول، واتجه يطردها جهة الحمرة، فلما كان في بيداء من الأرض ورآها تفرش بجناحيها من التعب، قرب منها وضربها على أم رأسها بعصاً مدببة كانت معه، فسقطت ميته، وأكلنا من لحمها وشحمها الكثير.
ويحدثني رجل آخر من جماعتنا أنه وجد خمس نعامات في وادي “الشبيكة”، بحمرة الهضب، فرمى واحدة منها ببندق فتيل معه، فأرداها قتيلة، ثم ترصد للأخريات عند مدخل الوادي فكانت تسند العجمة ثم تعود مسرعة، وفي كل مرة يصيد واحدة منها حتى أملى عليها جميعاً.
س١٣/ تعد من أبرز شعراء قبيلة الدواسر، وبينك وبين الدندان قصائد وذكريات مشتركة، حبذا لو تعطينا نبذة عن الدندان، ما الذي دار بينكما؟
ج١٣/ أدعو للدندان بالمغفرة والرحمة والجنة، هذا ما أستطيع قوله عنه، وهو شاعر فحل، عاش في الصحراء وراء إبله حتى طعن في السن، ثم انتقل إلى العيش مع أبناء أخيه في وادي الدواسر حتى توفي، أما شعراء الدواسر الآخرين فكثر واحتكاكي بهم قليل، فأنا في البر، وبعيد عن اجتماع الشعراء.
…..
نختم هذا اللقاء بمجاراة بين الشاعر الراوي: عبدالرحمن الجبرين وصديقه الشاعر: فالح بن حمود بن بتلا، لم يسبق لها النشر من قبل
يقول ابن جبرين:
أبطيت ماسيّرت صوب المخاريم
وأنا على المسيار شفق وشفاوي
أنا على المسيار ضميان ومحيم
ودي بشوف محرّقين القهاوي
يا ليتني في الحي نزال ومقيم
وإن المسافة بيننا أربع خطاوي
وإني قصير للعيال الشغمايم
والشايب اللي مثل حرٍّ ندواي
فالح فليح الوجه راعي الملازيم
القرم ابن بتلا ربيع الفداوي
ريف الضيوف إليا تلافوا مضاريم
يبهج ضيوفه في الزمان القصاوي
يوم الليال مشيبات المفاطيم
وهو على سمته وعرضه يلاوي
لو شان وقته ما شكى الجور والضيم
يصبر و لو وقته مهوب متساوي
ومعلم ماهوب يحتاج تعليم
حلال عقد مشربكات الدعاوي
وإن عوّدت للراي حكمة وتحكيم
سديد راي ما بعد قيل غاوي
ومن روس قوم للمحاجي دواهيم
لاد المنيعي محتمين الجلاوي
عدوهم يسقونه السم ترغيم
وصديقهم يرفع بروس العلاوي
ويثنون من دون الفطير المجاهيم
لاجا نهار ٍ فيه طعن وعزاوي
وصلوا على من حطم الشرك تحطيم
نبينا اللي للمساكين ياوي
عداد ماهل المطر واسبل الديم
وما ناص براق السحاب العشاوي
وهذا رد فالح بن حمود بن بتلا
يا مرحبا لاجيت عند المخاريم
ومعطّر الترحيب عنبر وجاوي
لأبو إبراهيم بن جبرين تكريم
هيل مع بنٍ شرابه يداوي
وجزل الكرامة لك علي الملازيم
حقك علينا يا بعيد الهقاوي
تستاهل التقدير عند الشغمايم
يا اللي لفعل الطيب دايم نحاوي
أرسلت نظمٍ مثل در المرازيم
إبه المثل ما تحتويه المناوي
وأنا سريع الرد لك بالمناظيم
وعلى مجاراتك شفوق شفاوي
ولاّ أنت مثل السيل غطى المزاميم
شاعر بريع وللتماثيل راوي
والخصم تلوي له كما ليّة السيم
ولا نتب على رد المحاضير غاوي
ومن لابةٍ يزبن لها من شكا الضيم
عقب الخطر يامن ويصبح غناوي
أولاد جبرين حرار صواريم
وأفعالهم تعرف نهار العزاوي
كرمان لاجات السنين الحواطيم
لا عضّت النجّد بعرض الشفاوي
من صلب زيد اللي خذا له مقاسيم
في نجد رسّاها بدهم القناوي
محد طمعها عقب حط المراسيم
يزرا بها الزاري ويرضى الرضاوي
قول على برهان ماهوب ترهيم
ماهوب قول مدورين العطاوي
وختامها مني صلاةٍ وتسليم
على شفيع الخلق يوم النجاوي
من لقاء المستشرق الهولندي مارسيل كوربر شوك مع الضيف في نهاية الثمانينيات الميلادية.
صورة أخرى تجمعه مع الشاعر بخيتان بن ضافي المخاريم.
لاهنت يابو فهد. لقاء جميل من شاعر جميل شكرا لك
ماشاء الله تبارك الله
الله يعطيه الصحة والعافية
وشكرا على اللقاء المميز
ماقصرت يابوفهد
لقاك رائع وثري بالمعلومات والمواقع والكلمات التي رحلت مع ذلك الجيل
والله يطول عمر الشيخ بن بتلا على الطاعة ويحسن خاتمته بخير ورضوان