عام

روما تستضيف الجولة الثانية للمفاوضات بين أمريكا وإيران.. هل تُحدِث اختراقاً يبعد شبح المواجهة؟


في خطوةٍ تحمل في طياتها آفاقاً معقّدة وتحدياتٍ جسيمة، تتجه الأنظار مجدّداً نحو العاصمة الإيطالية روما، حيث تستعد الولايات المتحدة وإيران للانخراط في جولة ثانية من المحادثات المباشرة اليوم (السبت)، في محاولةٍ لمعالجة أحد أكثر الملفات حساسية وإثارة للجدل على الساحة الدولية: برنامج طهران النووي المتسارع، وتجمع هذه المفاوضات مرة أخرى المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف، ووزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، في لقاءٍ قد يرسم مسار العلاقة المتوترة بين البلدين لعقودٍ مُقبلة، ويحدّد ما إذا كان بالإمكان إيجاد مسارٍ دبلوماسي مشترك وسط بحرٍ من عدم الثقة والتصعيد.

عداءٌ مُستحكم

يكتسب انعقاد هذه المحادثات أهمية تاريخية غير مسبوقة، بالنظر إلى عقودٍ من العداء المُستحكم بين واشنطن وطهران منذ أحداث الثورة الإيرانية عام 1979 وأزمة احتجاز الرهائن في السفارة الأمريكية. وتفاقم هذا التوتر بشكلٍ حاد عندما قرّر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب؛ في ولايته الأولى، الانسحاب أحادي الجانب من الاتفاق النووي المُبرم عام 2015 بين إيران والقوى العالمية الكبرى، الذي كان يهدف إلى تقييد قدرات طهران النووية مقابل رفع جزءٍ من العقوبات الاقتصادية الدولية، وأعقب الانسحاب الأمريكي سنوات من التدهور، شهدت تصاعداً في الهجمات المتبادلة ومفاوضات شاقة لم تُسفر عن نتائج ملموسة لاستعادة الاتفاق الذي قيّد -بشكلٍ كبيرٍ- تخصيب طهران لليورانيوم، وفقاً لـ”أسوشيتد برس”.

وفي ظل هذا الفراغ الاتفاقي، سارعت إيران إلى تجاوز القيود التي فرضها الاتفاق، وواصلت تخصيب اليورانيوم بمستويات غير مسبوقة وصلت إلى 60%، وهو مستوى يقترب فنياً وبشكلٍ ملحوظٍ من الدرجة المستخدمة في صناعة الأسلحة (90%)، وهذا التطوّر الخطير أثار قلقاً دولياً متزايداً بشأن اقتراب إيران من امتلاك القدرة على إنتاج سلاح نووي؛ ما يضع المنطقة والعالم على حافة مواجهة محتملة.

مخاطر جسيمة

تكمن المخاطر الجسيمة في هذه المرحلة في احتمال لجوء الولايات المتحدة أو إسرائيل إلى شن ضربات عسكرية وقائية ضدّ المنشآت النووية الإيرانية، أو تنفيذ طهران تهديداتها بالسعي لامتلاك سلاحٍ نووي كامل، وهذا المشهد المعقّد يتداخل مع تصاعدٍ غير مسبوقٍ في التوترات بمنطقة الشرق الأوسط، مدفوعاً بشكلٍ أساسي بالحرب الدائرة بين إسرائيل وحركة حماس في قطاع غزة، وتضاعفت حدة هذه التوترات في أعقاب الضربات الجوية الأمريكية، التي استهدفت مواقع تابعة للحوثيين في اليمن، وتلقي هذه التطورات الإقليمية بظلالها الثقيلة على أجواء المفاوضات النووية، وتجعل مهمة التوصل إلى تفاهمٍ أكثر تعقيداً وحساسية.

تسوية سلمية

وفي خضم هذه التحركات الدبلوماسية، جدَّدَ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يُنظر إليه على أنه يتمتع بنفوذٍ كبيرٍ على مسار السياسة الخارجية للحزب الجمهوري، التأكيد على موقفه بضرورة منع إيران من امتلاك سلاح نووي. وقال ترامب أمس: “أنا مع منع إيران، ببساطة شديدة، من امتلاك سلاح نووي”، مضيفاً بشكلٍ لافت: “أريد أن تكون إيران عظيمة ومزدهرة ورائعة”، وهذا التصريح يأتي ليؤكّد الموقف الأمريكي الأساسي المعلن، مع إضافة لهجة قد تُفهم على أنها محاولة لفتح الباب أمام إمكانية التوصل إلى تسوية في حال تخلت إيران عن طموحاتها النووية العسكرية.

وعبّر المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، إسماعيل بقائي، اليوم، عن التزام بلاده بالحل الدبلوماسي، وكتب على منصة “إكس”، أن إيران “أظهرت دائماً، حُسن نيّة وشعوراً بالمسؤولية، والتزامها بالدبلوماسية كوسيلة حضارية لحل القضايا”. وأضاف: “ندرك أن الطريق ليس سهلاً، لكننا نخطو كل خطوة بعيون مفتوحة، معتمدين أيضاً على التجارب السابقة”، وهذه التصريحات تعكس محاولة إيرانية للتأكيد على جديتها في المسار التفاوضي، مع الإقرار بالصعوبات التي تكتنف هذه العملية المعقّدة، خاصة في ظل تاريخٍ طويلٍ من المفاوضات المتقطعة وغير المثمرة.

أدوارٌ إقليمية

وسافر الرجلان الرئيسان في المفاوضات: ويتكوف؛ وعراقجي؛ إلى روما بعد جولاتٍ مكوكية. كان ويتكوف؛ قد أجرى محادثات في باريس بشأن الأزمة الأوكرانية، بينما وصل عراقجي؛ قادماً من طهران بعد زيارة إلى موسكو حيث التقى مسؤولين روساً؛ بينهم الرئيس فلاديمير بوتين؛ وقبل بدء الجولة الثانية، وصل وزير الخارجية العُماني بدر البوسعيدي؛ إلى روما واجتمع بنظيره الإيطالي، حيث أكّد أن مسقط ستلعب مرة أخرى دور الوسيط الرئيس في هذه الجولة الحسّاسة.

وتُعد روسيا، كعضوٍ في مجموعة القوى العالمية التي أبرمت اتفاق 2015، لاعباً محتملاً مهماً في أي اتفاقٍ مستقبلي بين طهران وواشنطن. ويشير محللون إلى أن موسكو قد تضطلع بدور في تسلُّم اليورانيوم الإيراني المخصّب بنسبة 60%، وهو ترتيبٌ يمكن أن يساعد في نزع فتيل أحد أكثر الجوانب إثارة للقلق في برنامج طهران النووي، مقابل الحصول على تنازلات غربية لطالما سعت إليها موسكو في ظل عزلتها الدولية المتزايدة بسبب حرب أوكرانيا.

وتبقى التحديات هائلة والمخاطر مرتفعة مع استئناف هذه المحادثات الحسّاسة. في ظل التقدُّم الذي أحرزته إيران في برنامجها النووي والتوترات المتصاعدة في المنطقة، يبدو أن مهمة ويتكوف؛ وعراقجي؛ في روما لا تتعلق فقط بالمسائل التقنية للاتفاق النووي؛ بل بمحاولة إيجاد صيغة ما لتجنُّب مواجهة أوسع نطاقاً؛ قد تكون عواقبها وخيمة على المنطقة والعالم. فهل تتمكّن هذه الجولة من إحداث اختراقٍ حقيقي، أم ستظل مجرد محطةٍ أخرى في مسار معقد ومتقلب؟



Source link