هَنْدَسَةُ الْإِحْسَانِ: وَقْفٌ نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ وَسَكَتَ عَنِ الْمَنِّ.. نَظْرَةٌ تَأَمُّلِيَّةٌ فِي وَقْفِ الْمُهَنْدِسِ مُحَمَّدِ بْنِ عصَيِّدِ الشَّرَارِيِّ

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الْبِرِّ، وَأَبْقَى صَنَائِعِ الْمَعْرُوفِ، وَأَجْزَلِ الْقُرُبَاتِ التِي يَتَعَدَّى نَفْعُهَا الْأَزْمِنَةَ وَالْأَمْكِنَةَ: الْوَقْفَ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالى، الذِي تُخَلَّدُ بِهِ الْآثَارُ، وَتُوَرَّثُ بِهِ الْحَسَنَاتُ، وَتَبْقَى بِهِ الصَّدَقَاتُ جَارِيَةً مَا دَامَ الْخَيْرُ يُرْتَجَى، وَالنَّفْعُ يُبْتَغَى.
وَقَدِ اعْتَنَتِ الشَّرِيعَةُ الْمُطَهَّرَةُ بِشَأْنِ الْوَقْفِ، فَجَعَلَتْهُ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ، وَهَدْيِ الصَّالِحِينَ، وَأَحَدِ مَسَالِكِ الْإِحْسَانِ التِي تُنْجِي فِي الْآخِرَةِ، وَتُصْلِحُ فِي الدُّنْيَا.
وَمَنْ تَأَمَّلَ هَدْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ الْكِرَامِ؛ رَأَى كَيْفَ ضَرَبُوا فِي ذَلِكَ الْمَثَلَ الْعَظِيمَ، حِينَ وَقَفُوا أَحَبَّ أَمْوَالِهِمْ وَأَغْلَاهَا، يَلْتَمِسُونَ بِهَا الْأَجْرَ الْمُمْتَدَّ. فَالْوَقْفُ لَيْسَ مُجَرَّدَ بَذْلٍ، بَلْ هُوَ تَدْبِيرٌ رَشِيدٌ، وَنَظَرٌ بَعِيدٌ، وَسَخَاءٌ لَا يَنْقَطِعُ أَثَرُهُ بِغِيَابِ صَاحِبِهِ، بَلْ يَظَلُّ شَاهِدًا لَهُ، وَذُخْرًا عِندَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَإِنَّ مِنَ النَّفَرِ الذِينَ إِذَا ذُكِرُوا؛ ذُكِرَ الْخَيْرُ: الْمُهَنْدِسَ مُحَمَّدَ بْنَ عصَيِّدٍ الشَّرَارِيَّ رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً؛ رَجُلٌ نَشَأَ فِي رُبُوعِ مَنْطِقَةِ الْجَوْفِ الْعَامِرَةِ، فَامْتَزَجَ فِيهِ نُبْلُ الْخُلُقِ، وَرَجَاحَةُ الْعَقْلِ، وَدِقَّةُ التَّدْبِيرِ، وَجَمِيلُ الْفِعْلِ.
وَإِنَّ الْمَرْءَ لَيَعْجَبُ مِنْ أَمْرِهِ؛ إِذْ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى صَنْعَةِ الْهَنْدَسَةِ، وَلَا وَقَفَ عِنْدَ حُدُودِ التَّخْطِيطِ وَالْبُنْيَانِ، بَلْ جَاوَزَ ذَلِكَ إِلَى هَنْدَسَةِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، فَجَعَلَ لِلْخَيْرِ أَعْمِدَةً لَا تَتَهَدَّمُ، وَأَسَّسَ لِمُؤَسَّسَةٍ سَمَّاهَا بِاسْمِهِ وَاسْمِ وَالِدَيْهِ، فَجَعَلَهَا وَقْفًا جَارِيًا، لَا يَنْقَطِعُ خَيْرُهُ، وَلَا يَخْبُو نُورُهُ.
وَقَدْ بَنَى عِمَارَاتٍ لَا يُبْتَغَى مِنْ وَرَائِهَا كَسْبٌ دُنْيَوِيٌّ، وَلَا حُطَامٌ فَانٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَا وَجْهًا كَرِيمًا، وَسَعْيًا لَا يَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ، فَجَعَلَ رَيْعَهَا دَائِرًا فِي فَلَكِ تِلْكَ الْمُؤَسَّسَةِ الْخَيْرِيَّةِ، يُوَجَّهُ إِلَى الْمُسَاهَمَةِ فِي رَعَايَةِ الْأَعْمَالِ الْخَيْرِيَّةِ فِي مِنْطَقَةِ الْجَوْفِ وَاسْتِدَامَتِهَا، مَعَ عِنَايَةٍ بِالْمَسَاجِدِ عِمَارَةً وَرِعَايَةً، وَتَفَقُّدًا وَهَنْدَسَةً.
وَهَذَا عَيْنُ الْفِقْهِ فِي الْوَقْفِ، وَالْحُسْنُ فِي التَّدْبِيرِ؛ إِذْ جَعَلَ الْخَيْرَ مُمَوِّلًا لِنَفْسِهِ، قَائِمًا بِذَاتِهِ، لَا يَنْتَظِرُ تَبَرُّعَ مُتَبَرِّعٍ، وَلَا يَتَعَثَّرُ بِعَجْزِ مُتَصَدِّقٍ، وَإِنَّمَا يُخْرِجُ نَفْعَهُ فِي سَعَةٍ، وَيُجْرِي خَيْرَهُ فِي دَعَةٍ، كَالْمَاءِ الْجَارِي فِي السَّوَاقِي، لَا يَحْبِسُهُ حَجَرٌ.
وَكَانَ فِي ذَلِكَ قَدْ سَبَقَ الْقَوْمَ بِرَأْيٍ رَشِيدٍ، وَهِمَّةٍ لَا تَعْرِفُ الْفُتُورَ، فَصَارَ بِذَلِكَ قُدْوَةً فِي بَابِهِ، وَمِثَالًا لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَخْلُفَ فِي الْأَرْضِ خَيْرًا.
وَلَوْ أَنَّ كُلَّ ذِي مَالٍ نَظَرَ فِي صَنِيعِ هَذَا الرَّجُلِ، وَجَعَلَ لِنَفْسِهِ نَصِيبًا مِنْ مِثْلِ هَذَا الْوَقْفِ؛ لَأَصْبَحْنَا نَعِيشُ فِي مُجْتَمَعٍ يُغْنِي فِيهِ الْغَنِيُّ فَقِيرَهُ، وَيُقَوِّي فِيهِ الْقَوِيُّ ضَعِيفَهُ، وَتَنْعَدِمُ فِيهِ الْحَاجَةُ.
وَإِنِّي لَأَدْعُو إِلَى أَنْ يُحْتَذَى صَنِيعُهُ، وَيُرْوَى خَبَرُهُ، وَيُحْكَى أَثَرُهُ: فِي الْمَحَافِلِ وَالْمَدَارِسِ، وَبَيْنَ الْأَكَابِرِ وَالْأَصَاغِرِ، فَمِثْلُ هَذَا الْعَمَلِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَمَ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُنْشَرَ كَمَا تُنْشَرُ الرَّيَاحِينُ فِي الْبَسَاتِينِ.
فَمَا أَعْظَمَهُ مِنْ أَجْرٍ! وَمَا أَحْسَنَهَا مِنْ سِيرَةٍ! وَمَا أَكْرَمَهُ مِنْ فِعْلٍ!
فَرَحِمَ اللهُ مُحَمَّدَ بْنَ عصَيِّدِ الشَّرَارِيَّ رَحْمَةً وَاسِعَةً، وَأَسْكَنَهُ فَسِيحَ جَنَّاتِهِ. آمِينَ.
وَكَتَبَهُ:
د. مُحَمَّدُ بْنُ مُرْضِي الْهُزَيِّل الشَّرَارِيُّ
الْأُسْتَاذُ الْمُشَارِكُ بِجَامِعَةِ الْجَوْفِ
يَوْمَ الْخَمِيسِ: 26 مِنْ شَهْرِ شَوَّالٍ 1446