الحائط والصخرة.. كل شيء في فلسطين يصعد بشكل مقدس، القدس معراج الأديان إلى السماء ونافذة الأرض العربية
اقتلعت مطمر الليالي الخالية وارتديت طمرك الخلق أيها الأعرابي في تالي أيام العجوز و»الصن والصنبر» أنذرت بشاتية لم تلف لسعاتها ورجفاتها لايستدفئك بها سوى ببيت جدك الأعرابي الذي لا أخال سوى أن حالك من حاله:
كأنَّني المِغزَلِ في التَّعرِّي
لادِفْءَ لي في الصِّنِّ والصِّنَّبرِ
فبأي حال جئت أيها الأعرابي القادم من بغداد فقلت: يا أيها المقدسيون الرافلون بالثقافة ماجاء بي سوى مثاقفتكم ومكاتبتكم وبينكم أمزان الشعر تهمي وتزجي أولستم أنتم من قمتم وقاومتم رغم النكبات والمنافي والمهاجر القسرية، وأخبار الرواة تجري وتبري. فقالوا تعال لمنتدانا وادن وتدان لإحدانا، نقص عليك الحكاية من البداية للنهاية، قبل أن يحل بنا دهر عثور فالدنيا زورة طيف والفرصة مزنة صيف، تأهب واكتب و(لجزيرتك الثقافية)، أرسل خطب رقيمنا ودهاقنا، أذكر لهم أن هذا ما كان في أرض فلسطين من الأدب المنتقى، فكتبت وأنا محقوقفًا مقفقفا من صر شاتية ليلة العجوز تلك التي لم يزملني فيها سوى حرورية حنجرة محمد عبدالوهاب ورنات المزاهر تصاحبه مترنما بقصيدة علي محمود طه «أخي جاوز الظالمون الــمـدى»
فلسطين بين يدي التاريخ
استهل الكاتب والشاعر محمد خضير الجزء الأول من صفحة «رقيم ودهاق فلسطين» للعودة بنا بتاريخ هذا البلد العظيم لأكثر من ستة آلاف سنة قبل الميلاد، مؤكدًا على أنه منذ العصر الحجري وفلسطين تزخر بالحياة التي أشارت آثارها المكتشفة في «تل العُبيدية» بالقرب مِن بحيرة طبريا إلى عمرها الممتد حتى ستة آلاف سنة ق.م. وفي العصر النحاسي، تمَّ العثور على أوانٍ نحاسية في منطقتي بئر السبع وأريحا دلَّل عمرها المقدَّر بثلاثة آلاف سنة ق.م على الوجود البشري هناك.
وأضاف: أما أبناء سام، وهم القادمون مِن شبه الجزيرة العربية، فقد استقروا في فلسطين، وتقسَّموا بعد ذلك إلى قبائل متناحرة، إلى أن جاءهم داود عليه السلام، ووحَّد قبائلهم، وهزم كل مِن العمونيين والمؤآبيين والأدوميين، وجعل مِن فلسطين مملكة متحدة، القدس الشريف عاصمة لها، وبعد وفاته، استلم ابنه سليمان عليه السلام الحكم فيها. ثم تم الاستيلاء عليها من قبل البابليين الذين تخلَّص منهم الفرس عام 539 ق.م، بعدها استولى اليونانيون عليها، ثمَّ تناوب بعدهم البطالسة والسلوقيون، لكن الرومان كان لهم كلمة أخرى، فقد استولوا عليها وبقوا فيها حتى منتصف القرن السابع الميلادي، وخلال فترة حكمهم ولد المسيح ابن مريم عليه السلام.
وتابع: لقد كان للعصر الإسلامي دوره البارز في استرجاع فلسطين عام 637 م، الذي برزت فيه أهميتها الإسلامية بعد حادثة الإسراء والمعراج. وعن شمس أدبها قال «خضير»: إن شمس الأدب لم تغب عن فلسطين منذ أن كان أقصاها قِبلةً أولى، فهي بلاد كثير مِن الأنبياء الذين نشروا رسالاتهم هناك، كما كانت معبراً لكثير منهم إلى العالمين، فتركوا خلال عبورهم أجوبة واضحة لكثير من أسئلة الغيب. وما السؤال والجواب إلا إشارتان لاشتغال العقل بغير ما تقع عليه العين، ولعلَّ تعاقب الاحتلالات على أرض فلسطين أورثها خليطاً مِن الثقافات التي أفرزت عند أصحابها العرب ثقافة خاصة ومتنوعة. ولأنَّ الإبداع يولد عادةً من رحم المعاناة فإنه لم يعد مستغرباً أن تكون فلسطين التاريخية مزدحمة بأسماء مبدعين تناوبوا على حفظ ماء الوجه الثقافي الذي امتدت ظلاله منذ الزجل الشعبي للشاعر «حليوة الكفرعيني» عام 1820م، إلى السينما التي أسّس لها الأخوان «بدر وإبراهيم لاما» وتصويرهما فيلم (الهارب) في بيت لحم عام 1936م، والذي تحدَّث عن فترة التجنيد الإجباري في الجيش العثماني، وصولاً إلى الشعر الذي نقله الراحل «محمود درويش» إلى العالمية.
الضمير الجمعي في الأدب الفلسطيني
يعتبر الأدب الفلسطيني بكل أجناسه شعرا، رواية، قصّة، ومسرحا، رافعة أخلاقية أمام ما تعرض له الشعب الفلسطيني من نكبات ومنافٍ وهجرات قسرية، كما أنه شكل هالة انفراج روحي لهذا الضمير الذي تبلور بين رحى الويلات. الناقد «سليم النجار» أشار إلى أن الأدب الفلسطيني استلم دفة الصورة الإنسانية غير الطبيعية التي تشكلت في طينة الواقع الفلسطيني وقال: إننا لا نجافي الحقيقة إن قلنا إن الشهيد غسان كنفاني في رائعته الروائية «عائد إلى حيفا» التقط مفاصل هذا الضمير، وعبّر عنه بشكل جلي عندما صور الفلسطيني توأماً للهزيمة والنصر معاً. الهزيمة، بالطفل الذي فُقد أثناء اللجوء عام 48، فالتقطته عائلة يهودية حوَّلته لاحقاً إلى ضابط في جيش الاحتلال الإسرائيلي. أما النصر، فقد جاء شاباً من رحم الهزيمة ليلتحق بالعمل الفدائي الفلسطيني.
وأضاف: وإذا وسعنا دائرة الرؤية للأدب الفلسطيني وانتقلنا إلى ما قاله الشاعر الخالد محمود درويش «سجِّل أنا عربي» فإننا نلحظ أنه يؤرخ لضمير جمعي بأن العربي الذي يبحث عن معنى واحد للنصر هو أيضاً مقاوم لكل هزيمة. كما تساوق معه القاص الفلسطيني محمود الريماوي، عندما رصد حالة الإنسان الفلسطيني العادي الذي تعاطى مع الهزيمة على أنها قدر غير محتوم، فقد استطاع أن يتواءم مع الهزيمة كأنها حالة فعل إلغاء، واستشرف من هذا الفعل أنه لا بد أن يستمر ويستمر في فعل الحياة كمرآة للهزيمة التي سيحطمها كقدر.
وتابع: على هذا المنوال جاء جيل من الشعراء الشباب -إذا صحَّ الوصف- أمثال الشاعر الفلسطيني محمد خضير الذي استنبط صورة الفلسطيني الغارق في ملامح الذكرى وانجلى ذلك في قصيدته المغنَّاة «وجهُ أمي» حيثُ مازج بين الأرض والأمِّ في صورة نقلت المتلقي إلى فهم جديد لفكرة الحياة والموت مجتمعين، يقول خضير:
«يا وجهَ أميْ
يا بلادَ الأنبياءْ
شُهداؤنا خُضْرُ السَنابلِ
إنْ ذَراها الريحُ
عادتْ بعدَ تِسْعٍ في انحناءٍ
ثم هاجتْ تحملُ الأكفانَ بِيْضاً
نحو موتٍ في البلادْ
فاصْفَرَّ وجْهُ الحاملينَ مناجِلاً
عَقِبَ الحصادْ».
وبالانتقال إلى دائرة أوسع، فإن الشاعر أديب ناصر في ديوانه «زيتي وزيتوني» قد اخترق الذاكرة الفلسطينية وسجل فيها حضوراً يسرد واقع الحلم، وإذا بالحلم يتحول إلى واقع يشاهده من حاول الادعاء بالنسيان، يقول ناصر:
«والمواعيدُ الصباحْ
توقظ الأحلام بالضوء المُباح
والمواعيدُ الظهيرة
مُذْ رأيتُ الشمس في الشمس ظفيرة
والمواعيدُ القَمرْ
وليال مِنْ غناءٍ وتهترْ
والمواعيدُ الشَجَرْ
الغرارُ.. السَرْوُ.. صفصاف الضفافْ
ووصايا السنديان».
وزاد: كما نستذكر هنا شاعرنا القلق، نضال برقان في قصيدته السفيرة «أغنية حب من أجل غزة» والتي استنطق فيها أمواج البحر فسردها نغمات شعرية على إيقاع الوجع الذي يحضر كلَّما هبَّ ريح الخوف، كسِفْرٍ لما ضاع منا. كما يصف الشاعر هشام عودة فلسطين في إصداره «أقتفي أثر ذاكرتي» بوهج غير مسبوق حين استطاع أن يحول نظمه الشعري إلى رؤية بصرية وكأنه يجيب عن السؤال الخالد، هل نسينا فلسطين؟ هو لا يبحث عن إجابة مكرَّرة أو كلمات متداولة، بل سعى إلى تشكيل لوحة بصرية لسؤاله بأنه باق ٍهنا. وهنا لا بد من استحضار مقولة شهيرة «إن الشعب الذي يبدع أدباً لا يمكن إنكاره». وللحقيقة استطاع الأدب الفلسطيني بتنوعاته المختلفة أن يشكل وجوداً أخلاقياً ينطلق من خلالها إلى أصقاع الدنيا محمَّلاً بالنصر والصورة والنغمة التي أقصد بها إيقاع الكلمات التي تجترح من رئة المغدور أيقونة التحرّر من الظلم.
وقد صدق المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد عندما خاطب العالم بالمعرفة، من خلال كتابه الشهير (الاستشراق) الذي أوضحت فلسفته بأننا لسنا مستشرقين، بل جزء من هذا العالم، رؤية وموقفاً. ومعرفته تعرِّف كيف تتحاور مع الآخر ولا تعرف كيف تتخاصم، وكأننا شياطين اللحظة.
واختتم «النجار» نعم نحن لا نستطيع الزعم أن الأدب الفلسطيني، شكَّل رؤية معرفية بعيدة عن ثقافة الضحيَّة، ونستطيع أن نوغل أكثر من ذلك والقول إن الضحيَّة دائماً كانت الهزيمة التي تعرَّض لها ثمَّ حوَّلها إلى استمرارية في الحياة.
المشهد الأدبي والثقافي في الداخل الفلسطيني
وحول المشهد الأدبي الثقافي في الداخل الفلسطيني «الثماني أربعيني» كشف رئيس الاتحاد العام للكتاب العرب الفلسطينيين سامي مهنا أن الواقع الثقافي والسياسي وحتّى الوجودي في الداخل الفلسطيني الثماني أربعيني، مركّبٌ إلى درجة كبيرة، فهم يعيشون يوميًا تحت وطأة التناقضات، فالعرب الفلسطينيون داخل الدولة العبرية، ينتمون بمعظمهم إلى التاريخ والثقافة والتراث العربي والفلسطيني، وللغة العربية، ويعيشون من ناحيةٍ أخرى، في واقعٍ يتناقض مع هذا الوجود، وراهنٍ ينفي هذا الفكر، ويحاول إلغاء هذه المشاعر. ومن ناحية أخرى، العرب الفلسطينيون في الداخل الثماني أربعيني، لا يزالون غير متواجدين بشكل متفاعل كغيرهم، في قلب الحياة العربية، لأننا لسنا في القاهرة ولا في بيروت، أو دمشق، أو الخليج أو المغرب العربي، وغيرهم من العواصم والمدن، وبالتالي، غالبًا لا نستطيع التفاعل المباشر مع الأوساط الأدبية بشكل مباشر،
وقال «مهنا» إن شعر المقاومة الفلسطينية كما أطلق عليه الأديب الشهيد غسان كنفاني، أثّر ولا يزال، في تثبيت وترسيخ الهوية والانتماء، وشحن وشحذ وبلورة وتعميق المشاعر الوطنية والقومية والإنسانية، فقد ساهم في إبقاء الروح الفلسطينية حيّةً وجامعةً رغم التشظي الرهيب الذي أصاب جسدها، ولعلَّ الجانب الفكري والفني الذي أبدع فيه شعبنا رغم نكباته، هو من أهم العوامل التي أبقت نارَ القضية الفلسطينية مشتعلةً عبر قرن.
وأضاف: إن من المفارقات التاريخية، أن تشتعل شرارة شعر وأدب المقاومة بعد نكبة عام 48، من د اخل الأرض المحتلة، وفي ظروف عزلةٍ وانقطاعٍ تام عن باقي أبناء الشعب الفلسطيني، وحتى عن أبناء شعبنا في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، قبل احتلالهم، وذلك بعد سنوات قليلة بعد تهجير الجزء الأكبر من الشعب الفلسطيني، وهدم مئات القرى، والقضاء على المدن والمدنية الفلسطينية، وقبل تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية أيضًا، وهذا هو الدليل القاطع الذي ينفي الرواية الصّهيونية، «شعبٌ بلا أرض، لأرضٍ بلا شعب» والتي تحولّت لشعارٍ لا يزال يُردّد حتى الآن، لتبرير جريمة النكبة، التي شاركت فيها قوى عظمى، فلا يمكن أن تنشأ حالةٌ إبداعية ثقافية، من فراغ، فشعر وأدب المقاومة عامّة، كان استمراريةً لحالة ثقافية، لها وزنها النوعي عربيًا، في فلسطين التاريخية، فحيفا ويافا، على سبيل المثال كانتا، من المدن الهامة ثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، على المستوى العام العربي، كمدنٍ مستقطبة ومنتجة للثقافة والحضارة.
واستدرك: لكن للأسف الشديد، أدّت التغيرات السياسية والإقليمية، إلى تراجع أهمية القضية الفلسطينية، ودخل فلسطينيو داخل الداخل، مرّة أخرى إلى مساحة الظل، فتوقف الاهتمام عند مرحلة الرعيل الأول، ونحن نعي أن القراء في الوطن العربي غير مطلعين بما يكفي على تجربة الأجيال التالية للرعيل الأول، التي لا تزال تحمل شعلة أدب المقاومة، رغم كل محاولات المؤسسة الصهيونية، بإذابة المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل، ثقافيًا وحضاريًا، لتفكيك هويته الوطنية، وضرب جذور انتمائه، إنّما هذه الشجرة الوارفة، لا تزال تتعمق في الأرض والتاريخ والذاكرة، وتتأفّقُ في مجالها الوطني والقومي والإنساني. فمنذ الرعيل الأول وحتى اللحظة، تشهد السّاحة الأدبية في الداخل الفلسطيني نشاطًا كبيرًا على المستوى الأدبي والثقافي عامةً، فقد أصدر اتحاد الكتاب كتابَ «معجم الشّعراء الفلسطينيين في فلسطين 48» من إعداد الكاتب محمد علي سعيد، ويضم بين طيّاته، السّيرة الذاتية لـ 325 شاعرًا، أصدروا مجموعات شعرية منذ نكبة الـ48 وحتى عام 2016، مما يشير إلى غزارة الإنتاج الأدبي ولاسيما في مجال الشعر.
كما تحظى باقي الأجناس الأدبية نشاطًا وإنتاجًا آخذًا في الازدياد، وخاصةً في مجال القصة القصيرة والمسرح، والرواية، إلاّ أن الرواية هي الأقل حظًا في النتاج الأدبي الفلسطيني في الداخل، من ناحية عددية، ومن ناحية أخرى، لا تزال متأخرة عامةً عن المستوى العربي العام، رغم أنه يوجد تجارب ناجحة نسبياً في مجال الرواية، ولعلّ رواية «المتشائل» لإميل حبيبي هي الرواية الوحيدة التي استقطبت الاهتمام العربي العام.
شعر المقاومة
وحول ما يجري هذه الأيام فوق الأرض الفلسطينية مما يؤكد على أن شعر المقاومة ما يزال ذا جدوى وما يزال مؤهلاً لقيادة المشروع الثقافي الفلسطيني، رغم ظهور بعض الأصوات في السنوات والعقود الماضية التي تسعى إلى البراءة من شعر المقاومة بعد أن خضعت عقول أصحابها إلى وهم السلام كما يصف الشاعر هشام عودة. الذي يشير لتسليم الراية الشعرية من جيل لجيل آخر، على امتداد قرن من الزمان فواصلت فيه قصيدة المقاومة حضورها اللافت في معركة الوطن والأمة دفاعاً عن الوعي والهوية والانتماء.
وقال: منذ جيل عبد الكريم الكرمي وعبد الرحيم محمود وبرهان الدين العبوشي الروّاد المؤسّسين لقصيدة المقاومة مروراً بجيل محمود درويش ومعين بسيسو وفدوى طوقان، وصولاً إلى الجيل الشعري الشاب الذي مازال منحازاً لهذه القصيدة من أمثال إبراهيم نصرالله، محمد خضير.. ظلت هذه القصيدة سلاحاً مؤثراً من أسلحة الشعب الفلسطيني في مواجهة الغزو والاحتلال والتغريب والتجهيل.
وأضاف إن الحالة التي يجب ألا ننساها هي: أن شعر المقاومة الفلسطينية بعد النكبة قد انطلق من الجزء الفلسطيني المغتصب عام 1948، على يد الشعراء حنّا أبو حنّا، وحنّا إبراهيم، وتوفيق زيّاد، وسالم جبران، وراشد حسين، ومحمد علي طه، وسميح القاسم، الذين قاوموا بشدّة مع زملائهم المشروع العنصري الصهيوني، وتلقّف هذه القصائد من بعدهم شعراء الشتات الفلسطيني وفي مقدمتهم يوسف الخطيب الذي قدّم دراسة وازنة سمّاها «ديوان الوطن المحتل» تناول فيها جذور شعر المقاومة.
وتابع: إن الانتفاضات المتواصلة للشعب الفلسطيني تطلبت حضوراً مهماً لقصيدة المقاومة لما تمثله من أداة تحريض تصل بسرعة إلى المتلقي، على عكس القّصة والرواية والمسرحية التي تحتاج إلى وقت أطول لتنضج، كما لم تقتصر هوية شعراء المقاومة على الشعراء الفلسطينين فقط بل «انتخى» عدد كبير من الشعراء العرب وكتبوا للقضية الفلسطينية شعراً مقاوماً تناقلته الألسن والأجيال، وأصبح الدارسون والباحثون في شعر المقاومة الفلسطينية يتعاملون مع هذه الكوكبة من الشعراء العرب على أنهم شعراء فلسطينيون من أمثال الشاعر العراقي حميد سعيد، والشاعر اللبناني موسى شعيب، والشاعر المصري محمد عفيفي مطر.. وغيرهم.
إبراهيم طوقان شاعر فلسطين الأول
وعن شاعر فلسطين الأول إبراهيم طوقان قال المؤرخ والشاعر الفلسطيني محمد سمحان: ولد الشاعر إبراهيم طوقان في مدينة نابلس في فلسطين عام 1905 في أسرة إقطاعية ثرية ومتنفذة، من أبرز رموزها العلمية العلامة والتربوي قدري طوقان، وقد ترعرع مع أخيه أحمد «رئيس وزراء الأردن فيما بعد» وشقيقته الشاعرة فدوى طوقان، وتلقى تعليمه الأولي في مدينته نابلس ثم في المدرسة الرشيدية فمدرسة المطران المقدسيتين، حيث تتلمذ ولقي الرعاية والاهتمام من أستاذه المربي وعلامة العربية وآدابها «نخاة زريق». ثم انتقل إبراهيم إلى بيروت ليواصل تحصيله العلمي في الجامعة الأمريكية حيث لمع اسمه في عالم الشعر هناك ومكث في الجامعة لمدة ستة أعوام 1923 – 1929م حيث تخرج حاملاً شهادة الليسانس في اللغة العربية وآدابها. بعد ذلك عاد إبراهيم إلى مدينته نابلس ودرّس في مدرسة النجاح الوطنية لمدة عام حيث التقى وتفاعل مع عدد من أدباء وشعراء فلسطين، ثم عاد إلى الجامعة الأمريكية في بيروت أستاذاً للغة العربية وآدابها 1933 -1935م ليغادرها عائداً إلى فلسطين ليعمل موظفاً في إذاعة القدس مسؤولاً عن القسم العربي فيها، وليمارس نشاطه الأدبي والوطني من خلالها مما دفع بسلطات الانتداب إلى فصله من عمله عام 1940 فغادر فلسطين إلى العراق ليعمل مدرساً للعربية في دار المعلمين العليا في بغداد.
وأضاف: لقد عاش إبراهيم عليلاً نحيلاً طوال حياته وكانت صحته تزداد سوءاً لكنه رغم ذلك تزوج وأنجب ولداً وبنتاً هما جعفر وعُريب، لكنه ما لبث أن فارق الحياة وهو في أوج تألقه وعطائه الوطني والأدبي عن ستة وثلاثين عاماً تاركاً وراءه إرثا شعرياً وأدبياً ووطنياً وسيرة حافلة بالانتماء والعطاء لوطنه وأمته متأثراً ومؤثراً بكبار الشعراء الذين عاصرهم وعارض قصائدهم. وقد اشتهر من قصائده قصيدة موطني، وقصيدة الثلاثاء الحمراء، والفدائي، والحبشي الذبيح، وبيض الحمائم وغيرها من القصائد الوطنية الثائرة والغزلية الرقيقة، وكذلك قصيدته التي عارض فيها أحمد شوقي المعلم. ولأن القضية الفلسطينية وتطوراتها أثرت في شخص إبراهيم وشعره فقد حفل ديوانه الشعري بالقصائد الوطنية التي جابه فيها الانتداب والتغلغل الصهيوني ولعل في أبياته التالية دليل على صدق حدسه وقراءته للواقع الذي عايشه وشهد فيه بوادر ما ستؤول إليه القضية فلسطينياً وعربياً:
أمامك أيها العربي يوماً
تشيب لهوله سود النواصي
وأنت كما عهدتك لا تبالي
بغير مظاهر العبث الرخاص
مصيرك بات يلمسه الأداني
وسار حديثه بين الأقاصي
وكذلك قصيدته في شهداء سجن عكا الذين أُعدموا على أثر مشاركتهم في ثورة البراق والتي يقول فيها:
لما تعرض نجمك المنحوسُ
وتعلقت بذرى الحبال رؤوسُ
ناح الأذان وأعول النـــاقوس
فالليل أكدر والنهار عبوس
فدوى طوقان أمّ الشعر الفلسطيني
عندما تريد الحياة فاصنع قلباً كهذا الذي كانت تتطوقه فدوى بين ذراعيها.. هكذا قالت هديل رحامنة في حديثها عن شقيقة ابراهيم طوقان مشيرة إلى أنها الأنثى التي وجدت الرجل الصحيح في دور الأخ إبراهيم الذي آمن بضرورة استمرار الكلمة لإتمام قضية التحريرعبر كل الأجيال القادمة، ليساهم في خلق رافد مِن روافد الشعر الفلسطيني يصب في عائلة طوقان.
وتساءلت «رحامنة» كيف أنجب البيت الفلسطيني شاعرين؟
ففدوى التي صقلت ثقافتها بيديها، أكملت تعليمها معوَّلة على ذاتها، كانت تكتشف الكتاب قبل أن تقرأه، ولأنَّ أصل القصيدة وطن وامرأة، فقد تمكنت من المناصب والجوائز والإنجازات. فهل كان لهذا الصقل الذاتي دور بارز في خلق الشاعرة المرأة التي لم تفقد حتى حنو صوتها على القصيدة ورقَّة حضورها برفق الحياة القاسية الناعمة حتى اكتملت أركان المرأة الشاعرة لتشكل ركيزة أساسية في شعر المقاومة إلى جانب نخبة من شعراء فلسطين، فبدأت بـ «لن أبكي»، ربما لأن البكاء كان نديمها في فراق أخيها ورحيلها بعد ذلك عن نابلس، وأيضاً فجيعة الاحتلال التي ولَّدت عندها إرادة الانتصار للقضية. كما أنها دخلت متخفية باسم مستعار، فإن غابت الشهرة عن حاجتك كمطلب؛ أصبحت الغاية أسمى بالإبداع وأشدُّ تفوقاً، حتى تخرج كما تستحق باسم أمّ الشعر الفلسطيني كما لقبَّها الراحل محمود درويش.
وأضافت: امتازت فدوى طوقان باختيارها لأدق تفصيلة بالكتب فكانت عناوينها تخطو فوق الغلاف لتشق طريقها إلى الحياة والوطن وإلينا. وحدي مع الأيام 1952. وجدتها 1957. أما الباب المغلق. اللحن الأخير، 2000. أخي إبراهيم، 1946. رحلة جبلية رحلة صعبة، 1985. الرحلة الأصعب (سيرة ذاتية)، 1993.
وتساءلت «رحامنة» مرة أخرى ماذا لو جاءت فدوى طوقان في زمن آخر كهذا الذي نحيا فيه الآن؟ فرغم رفع كل القيود عن عمل المرأة وإنجازاتها، صارت الساحة مكتظة بالشاعرات وهذا الاكتظاظ أيضاً يمارس قمعاً من نوع آخر للإبداع في وقت لم تعد هناك رئة ثالثة تتنفس المعنى الحقيقي للقصيدة، وفوضى سياسية واجتماعية وأدبية عارمة اختلت فيها قيمة الشعراء وصارت ملوحة الخبز مائعة.
محمود درويش «على هذه الأرض»
وعن الراحل محمود درويش عاشق فلسطين، قال الشاعر «محمد خضير»: درويش شاعر امتدَّت ظلال شعره مِن قرية البروة في فلسطين، وحتى آخر عاشق عربي يقف على ساحل الأطلسي، اعتقل مراراً ما دفعه للسفر إلى الاتحاد السوفيتي، ثم اللجوء لاحقاً إلى القاهرة، وسرعان ما انضم هناك إلى منظمة التحرير الفلسطينية، ومن ثم غادر إلى لبنان للعمل في مؤسسات النشر والدراسات التابعة للمنظمة، كما شغل درويش منصب رئيس رابطة الكتّاب والصحفيين الفلسطينيين، وشغل منصب مدير مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية قبل أن يؤسّس مجلة الكرمل الثقافية، ثم سُمح له بالعودة إلى فلسطين بعد أن طلب زيارة أمِّه هناك.
وأكد خضير إن شعر درويش احتمل مراحل متعددة، منها تواجده الأول في الوطن، واتقاد الوعي لديه، ثمَّ الوعي الثوري الذي امتد حتى «مديح الظل العالي» في بيروت عام 1982م، ثمَّ الحلم الإنساني الذي جاوز فيه حدود فلسطين إلى العالمية، بحيث اتَّسمَ شعره بالرمزية والحب، لكنه أصيب بخيبة أمل بعد خروجه من بيروت وتلاشي فكرة القومية العربية التي كانت حلماً يراوده على مدى قصائده. توفي في الولايات المتحدة الأمريكية في 9 أغسطس 2008م تاركاً إرثاً طويلا مِن الشعر الذي شغل الناس، وهو الشاعر الذي أثَّث للرمزية المعاصرة. ترك درويش حصانه وحيداً، يرقُب أثر الفراشة التي غنَّت: على هذه الأرض ما يستحق الحياة.