لقاءات

فلاح بن غنيم يفتح صدره لصحيفة “سمح”…عاصرت أزمنة الجوع، وشاهدت السرج والأتاريك تنير شوارع الرياض قبل الكهرباء

التقينا بالمواطن “فلاح بن محمد بن غنيم المساردة القحطاني، وهو في العقد التاسع من عمره، وحدثنا بأريحية تامة عن ذكرياته طيلة العقود الطويلة الماضية، وحكى لنا عن تنقلاته بين حواضر المملكة وبواديها في سبيل طلب الرزق، وأخبرنا عن والده الذي شارك في معارك توحيد البلاد، فحيّهلاً بكم معشر قراء صحيفة “سمح” في هذا الحوار الحصري الخامس الذي يحوي الألم والأمل، ضمن سلسلة اللقاءات مع المعمرين

س١/ نرحب بكم أجمل ترحيب ونطلب من شخصكم الكريم أن تعرفوا القارئ باسمكم كاملاً وتاريخ ميلادكم؟

ج١/ حياكم الله وأبقاكم.
أنا فلاح بن محمد بن غنيم آل مبارك المساردة من قحطان، من أهل وادي جاش بمحافظة تثليث، وتاريخ ميلادي لا أعرفه بالضبط، لكنه مدون في الأوراق الرسمية عام ١٣٥٨هـ، واسمي اكتسبته من خال والدتي فلاح بن حسين آل حنشل المسردي رحمه الله.

س٢/ أين كانت طفولتكم المبكرة؟

ج٢/ كانت في البادية في ديارنا في الجنوب، في أزمنة اتسمت بالفقر وشظف العيش، اضطررنا من أجلها إلى الذهاب إلى الرياض للبحث عما يسد رمقنا، وأذكر أني خرجت من جاش مع والدي ووالدتي وأخواتي ومعنا عنز واحدة وبعيرين فقط، وفي الطريق ذبح والدي العنز لنا ومن شدة الجوع والحاجة، طبخنا حتى دمها وأكلناه، والله المستعان.

س٣/ كيف كانت رحلتكم تلك من جاش إلى الرياض؟

ج٣/ خرجنا من “جاش”، نحو بيشة، ثم اتجهنا من خلالها إلى “نجد”، عبر وديانها المعهودة نتتبع أماكن المياه ونتجنب المظامي حتى وصلنا إلى الرياض بعد وقت طويل.

س ٤/ أين نزلتم وماذا بقي في ذهنك من ملامح الرياض آنذاك؟

ج٤/ نزلنا أولاً في (المرقب) في بيت من الشَّعَر، ومعنا أمة الثقلين، ثم انتقلنا إلى (العود)، ووجدنا أكثر من ٢٠ بيتاً من أبناء قبيلة المساردة هناك في بيوت شعر مثلنا وبعضهم ابتنى له غرفة أو غرفتين وهم في حالة يرثى لها من البؤس والشقاء.
وكانت الرياض آنذاك صغيرة، وأذكر أن عمال البلدية الموكلين بتنظيف الشوارع يركبون الحمير ومعهم مكانس من سعف النخيل لتنظيف الطرق التي كانت بالطبع غير مسفلته، وتضاء آنذاك بالسرج والأتاريك المعلقة، والحياة بسيطة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني.

س٥/ كيف كانت طريقة عيشكم في الرياض في ظل تلك الظروف الصعبة؟

ج٥/ كما قلت لك سابقاً أصابت الناس سنوات جدب استمرت أربع أو خمس سنوات وأتى بعدها مجاعة شديدة فنزحت على أثره بوادي المملكة إلى الرياض ونحن منهم، وانتشرت أمراض قاتلة مات بسببها خلق كثير، ومنهم جميع أخواتي اللاتي قدمن معنا من الجنوب وأنا الوحيد الذي أنجاني الله بلطفه وكرمه بسبب جرعة تطعيم أخذتها على يد طبيب في الرياض.

س٦/ ذكرت لي أنك عملت في الرياض آنذاك على الرغم من صغر سنك؟

ج٦/ اي نعم، مكثنا في الرياض قرابة ست سنوات، ولما اشتد عودي وبلغت من العمر عشر سنوات قمت ببعض الأعمال البسيطة؛ من أجل مساعدة والديّ، فعملت أولاً بأجر قدره ريال إلا ربع، وعملت لمدة ٣ سنوات في عمل آخر براتب شهري قدره ٦ ريالات مع توفير وجبة غداء وعشاء لي ولأسرتي.
ثم عاد والدي إلى الجنوب، وبعد عام لحقنا به أنا ووالدتي بصحبة هذال بن راجح من جماعتنا، وكنا على ظهر سيارة مستأجرة، ولما وصلنا إلى وادي الدواسر اشترينا ناقتين إحداهما لهذال رحمه الله، والأخرى لنا، فامتطينا التي لنا حتى وصلنا إلى ديارنا.

س٧/ حدثنا عن مضيف ثليم بحكم أنك ممن أكلت فيه في طفولتك؟

ج٧/ على أثر المجاعة التي ذكرت ويقال: إن من أسبابها أيضاً الحرب العالمية الثانية، افتتح الملك عبدالعزيز في البطحاء مضيفاً تقدم فيه الوجبات للناس، حيث تطبخ في قدور كبيرة في حوش القصر، وتحتوي على العيش والجريش وغيره، ومشهد الناس وهم متجهين إلى ثليم، يذكرني بمشهد الحجاج عندما يتجهون إلى الجمرات من شدة كثرتهم وازدحامهم، فرحم الله الملك عبدالعزيز وأجزل له الأجر والمثوبة.

س٨/ ماهي الأزمنة المسمية التي عاصرتها؟

ج ٨/ عاصرت سنوات كثيرة وربما بعضها غاب عن بالي الآن، فإن كنت تقصد أزمنة الجوع فقد انتفت بعد انتشار السيارات، وكثرت الخيرات ولله الحمد والمنه، وهذا بفضل الله ثم بفضل دولتنا التي وفرت لنا كل شي.
أما السنوات المسمية كما تفضلت فأذكر منها “زمان الثلج الأول”، وعمري آنذاك ١٤ عاماً، وكانت الأمطار تأتينا فتغيب الشمس ١٥ يوماً لانراها بتاتاً ويكثر معها البرد القارص.
وفي سنوات مضت في التسعينيات الهجرية أتانا ثلج ونحن نازلين بالقرب من جبل “أبو حسك”، في وادي الرشا بنجد، وكأنني الآن أرى بيوت الشعر السود بعد اكتسائها بالثلج؛ كأنها خيام بيض.

س٩/ هل شاهدت الصيد في دياركم قبل انقراضه؟

ج٩/ شاهدت الظباء في المصامة بكثرة و شاهدتها في الثفن والقنة، ورأيتها في “نجد”، جهاجيل، لكن سياراتنا آنذاك مهترئة ولا نستطيع اللحاق بها.
وأما الوعول ففي الجبال ولم أرها بعيني، والنعام حدثني عنه والدي، وانقراضه قديم من الجزيرة العربية.
أما الطيور فكثيرة ومنها: القهابا والسفع في الجبال وهي كثيرة آنذاك.

س ١٠/ والدكم ممن شارك في فتوحات المملكة وكذلك عمك حزام بن غنيم حدثنا عن ذلك؟

ج ١٠/ شارك والدي مع الملك عبدالعزيز في ثمان معارك إبان توحيد المملكة منها “فتح الأحساء”، وكان من الفرسان وسلموه بندقاً قصيرة.
وشارك عمي حزام في “هية مخضوب”، وتعثرت به فرسه فمات هناك.

س ١١/ يقال: إن لوالدك فرس من سلالة مربط الصقلاوية كيف درجت إليكم؟

ج ١١/ اشتراها والدي من آل العرجا من يام وقدم بها من بلادهم شمال نجران، وكانت صفراء اللون وعقيم.
واشترى فرساً أخرى شقراء.
أما الصقلاوية فبعد أن أدى مهماته عليها اشتراها منه “الشيخ مترك بن شفلوت”، وأهداها بدوره على جلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله، عندما كان نائباً للملك في الحجاز، فأتى الزُّمال وأخذوها من بلدة الصبيخة في الجنوب وذهبوا بها إلى مكة.

س١٢/ وماذا عن إبلكم آل المغرا التي اشتهرت في الجنوب ونجد؟

ج ١٢/ هذه لوالدي وأعمامي، آلت إليهم بالكسب قديماً، وهي على اسمها وكان أولها مجاهيم، ثم اختلطت فيها بعض الألوان كالحمر والعفر.
وهذه الإبل عاصرت بعضها وامتلكت من سلالتها ناقتين.

س١٣/ أذكر ما تعرفه عن هذه الموارد؟
( العضبط – ناشب – الحفيرة- العرج).

ج ١٣/ ناشب: بئر جاهلية قديمة، في بطن وادي الثفن، تزيد مع الأمطار وينضب مخزونها في أوقات الجفاف، وكان الناس يقطنون عليها وفيها بركة.
والعضبّط قديمة وماؤها يزيد وينقص مثل ناشب.
أما الحفيرة فأغزر بكثير من ناشب والعضبط.
والعرج ماؤه أحلى من السحاب؛ لكنه في مكان بعيد ووعر لا يأتيه إلا شديد العضدين، وبئره محفورة بلا رص كالجفر ثلاث قيم أو أربع.

س١٤/ حدثنا عن الأعمال التي التحقت بها منذ شبابك حتى تقاعدك؟

ج ١٤/ الأعمال كثيرة منها: أنني عملت في الجيش بمدينة الخرج لمدة ٣ سنوات ، ثم عملت في الفوج التابع للحرس الوطني في حايل لمدة ٣ سنوات أيضاً، وعملت في إمارة علب بظهران الجنوب فترة وجيزة، ثم عملت في عرعر لمدة سنتين، ثم عملت في شرطة الرياض لكني ذهبت في مهمة مأمورية فتأخرت ففصلوني، وسافرت إلى دولة قطر فعملت عسكرياً هناك، بعدها عدت إلى حياة البداوة والترحال في ديارنا، حتى توظفت بعدما افتتح مكتب الضمان الاجتماعي في تثليث سائقاً عام ١٣٩٥هـ واستمررتُ في ذلك العمل لمدة عقدين من الزمان، ثم أحلت إلى التقاعد، ولأجل عملي في الضمان ومن أجل تعليم الأبناء اضطررت إلى ترك حياة الترحال، والنزول مع جماعتي في هجرة آل مبارك في جاش ولازلت فيها إلى اليوم.

س ١٥/ عمل محمد بن مفلح بن الأشدق المسردي معكم في حايل وقال فيك أبياتاً بعدما استقلت من الوظيفة وتركته وحيداً هناك أخبرنا بها؟

ج١٥/ كانت بيني وبينه صداقة حميمة وزمالة وود، وعاد هو أيضاً إلى الجنوب فيما بعد، ومن فضل الله علي أنني أنبت من يحج عنه؛ لأنه مات في عز شبابه وربما أنه لم يحج، أسأل الله أن يقبلها.
أما الأبيات فهي طويلة ولا أحفظ منها إلا قوله:
ألا يا وجودي عقب ما رحت يا فلاح
‏وجود أسعرٍ عدّوه من بارد الفيّه

أنا عقبكم ماني بمبسوط سدي باح
وأنا لاعذلت القلب عيني شقاوية

‏أنا دمع عيني مثل عدٍّ بلا ميّاح
‏تخالف دليّه بين بدوٍ وشاويّه

‏و يا زوع قلبي زوعة الطير بالملواح
‏كفخ بالخضيرا واقتفته الجنوبية

س ١٦/ أعرف أنك تجيد القراءة والكتابة فأين تعلمت؟

ج ١٦/ درست في الجيش دراسة بسيطة ثم بدأت أعلم نفسي حتى استطعت أن أفك الحروف، وفي سنوات خلت التحقتُ لمدة سنتين بمدرسة لمحو الأمية في جاش؛ فاستفدت منها.

س ١٧/ اشتهرت بصوتك الندي؟ فمنذ متى وأنت مؤذن لجامع آل مبارك بجاش؟

ج ١٧/ منذ عام ١٣٩٦هـ وحتى الآن ولله الحمد والمنة.

س ١٨/ أنت صديق مقرب من معالي الفريق معجب بن محمد المسردي – مدير عام حرس الأسبق، ما هي أبرز صفاته اللي تعرفها ولا يعرفها الناس عنه؟

ج ١٨/ من أبرز صفاته رحمه الله عفة اللسان، فلم أره طيلة مرافقتي له يسب أو يشتم أو يأكل عرض مسلم أبداً، وكان يعطي ويتصدق بخفية دون منّ ولا أذى، وكان حسن الصلاة، ومن التالين لكتاب الله ويحفظ منه الكثير.
معجب كل صفاته حسنه وهو من أندر وأطيب وأنبل الرجال الذين عرفت.

تعليق واحد

  1. شكرا استاذنا مسعود ابو فهد على هذا اللقاء الشيق مع رجل له تجارب في الحياه ، وعاصر حلاوتها ومرها
    كعادتك متميز
    وفقك الله وجزاك الله كل خير