خطيب الحرم المكي يحذر من كفر نعم الله بالتخوض فيها بغير حق وصرفها فيما يسخط الله
أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس المسلمين بتقوى الله سبحانه وتعالى في السر والعلن، والإكثار من الطاعات لنيل رضوانه وترك المعاصي لتجنب سخطه.
وقال في خطبته التي ألقاها اليوم بالمسجد الحرام: دون سبر لمَجْلُوِّ الحقائق، أو قدح لزناد النظر في الدقائق، يدرك أولو النهى والبصائر أن نعم الله تعالى تتوالى على الخلائق أفواجًا: فرادى وأزواجًا، ذات موارد عذبة ومناهل، يرتشفها العال والناهل، {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة} [لقمان: 20]، ولكن قد أهدر أقوام هاتيك النعم الوسيعة، وخالفوا أمر الشريعة، وامتطوا لزوال الخيرات أسرع ذريعة، نسأل الله أن يوزعنا شكر نعمه.
وأضاف: ودرة النعم العظام، والمنن الفخام؛ شريعة الإسلام، دين الله المبين، الذي ارتضاه للعالمين، فهو الخالد في مقاصده ومعانيه، البديع في أحكامه ومبانيه، قال الإمام الحافظ ابن قيم الجوزية: “أعظم النعم الإقبال على الله والتعبد له، والانقطاع إليه، ولا نعمة أعظم من هذه النعمة”، ومن الآلاء الربانية العظيمة، التي جلّت عن كل مقدار وقيمة، نعمة الإيمان الراسخ المتين، المتوج بكمال اليقين، المتلألئ في أعماق الروح والفؤاد، ومع ذلك يأبى أقوام إلا تدنيسه بالشك والإلحاد، والاستكبار والعناد، {أفي الله شك فاطر السماوات والأرض} [إبراهيم: 10]، فقتاد الإلحاد يسمم كل شيء، وبواتر الإلحاد تهدر أي شيء، ولأن يُكسف القمران، ويُمحى الملوان أهون من ظهور الإلحاد {قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء} [الأنعام: 164]، وما أحوج العالم اليوم إلى أنوار الإيمان التي تصله بخالقه، فيحيا حياة الأمن والسلام والتراحم والوئام.
وبيّن “السديس” أن من النعم الجلى التي أهدرها فئام، وانتقص عظيم حقها أقوام: نعمة التوحيد؛ حق الله على العبيد، حيث عطلوها بالشرك والتنديد، واعتقدوا النفع والضر في الرفات والعبيد، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، قال سبحانه: {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} [المائدة:72]، فاللهَ اللهَ في حفظ جناب التوحيد، كونوا من حماته وأنصاره، واجتهدوا في الذود عن حياضه وذماره، ومن أزكى المنن، التي تبلغنا أقوى المكن، اقتفاء أهدى سنن، فالسنة ولزوم منهج السلف الصالح، مناط العز والنصر حيال مدلهمات هذا العصر، قال رسول الله صل الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه أبو داود في سننه، عن العرباض بن سارية: “عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ”، يؤكد صلوات ربي وسلامه عليه التمسك بالسنة؛ لأن الحياد عنها بالمحدثات والبدع مضرة على الدين والمجتمع، بل هي طعن في السنة وإهدار، ومورد عكر يرده ضحلة العلم الأغمار، فـ “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد” أخرجه البخاري ومسلم، ومنها الحفاظ على منهج الوسط والاعتدال، وعدم هدرها بالغلو والتنطع، أو الجفاء والانحلال.
وأكد أن من أبهج المباهج وأحكم السبل والمناهج التي قصدت إليها شريعتنا الغراء لإصلاح الأمم والمجتمعات، وإسعاد الأفراد والجماعات، واستحكام الأمن واستدرار البركات، تحقيق شعيرة الائتلاف والجماعة، والسمع والطاعة، وتمكين فقه الاتحاد والاتفاق، والتلاحم والوفاق، والتراحم والإشفاق، ولكن من أسف ممض أن أهدر هذه النعمة فئام بالتجاوز والاختلاف، والتنازع والاعتساف، والتأليب والإرجاف، وتلك لعمرو الله من الأعاصير والفواقر، والزعازع البواقر، التي ما انفكت أمتنا الكليمة ترزح تحت أثقالها، وتبهض الغير بأوجالها، قال جل اسمه: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} [الأنفال: 46].
ودعا إمام وخطيب المسجد الحرام إلى اجتناب الإلمام بهذه القواصم والآثام، ولوذوا بالتآلف والترابط والوئام؛ تفوزوا بصفاء البين وسعادة الدارين.
وأشار في خطبته إلى أن من نعم المولى التي لا تعد ولا تحصى نعمة حفظ النفس والبدن، وصونها عن كل مكروه وأفن، كيف وحفظها ضرورة دينية، ومصلحة شرعية، فإزهاقها -بغير حق- بالقتل والتفجير من أعظم الكبائر، وأكبر الجرائر، وكذا إفناؤها بالمخدرات والمسكرات، قال تعالى: {من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا} [المائدة: 32].
وكذا نعمة الصحة والعافية، والسلامة من الأمراض والعدوى، والفراغ، ففي الحديث الصحيح الذي أخرجه الشيخان من حديث ابن عباس: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس؛ الصحة والفراغ”، وكان الله في عون وشفاء المرضى والزمنى والمبتلين ومنها، نعمة الأسرة وحفظها برعايتها، وكذا الوالدين ببرهما، والأولاد بحسن تربيتهم، وثمة نعمة أخرى ظاهرة لكل شكور أواب، فهي من أجلّ نعم الرب الوهاب، إنها نعمة الغذاء من الطعام والشراب، التي لا تستقيم أبدان البشر ولا تصح أجسادهم إلا بها، وبفقدها يفقد الأمل المعقود، والطموح المنشود، وقد امتن الله على عباده بهذه النعمة العظيمة، في قوله سبحانه: {فلينظر الإنسان إلى طعامه} وقال تعالى: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه}.
وحذر “السديس” من مغبة كفر نعم الله بالتخوض فيها بغير حق، وصرفها فيما يُسخط الله جل وعلا، وإهدارها بالتبذير والإسراف، وعدم الحفظ والإتلاف، ويظهر ذلك في الولائم والأعراس، والسلع والبضائع والإنتاج، وأنواع الاستهلاك والكماليات؛ فإن ذلك منكر وذميم، ومرتعه وبيل ووخيم، خطير النتائج دنيا وأخرى: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} [الأعراف: 31]، {ولا تبذر تبذيرا، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا}.
ودعا التجار والأثرياء إلى تقوى الله في النعم، محذرًا من المباهاة والبطر والتفاخر، والمغالاة في الأسعار، فكم من أناس يتضورون جوعًا، وآخرين يعيشون التخمة والمراءاة، بل لربما يعمد بعضهم إلى تصوير الحفلات والموائد، في مواقع التواصل؛ لكسر قلوب المحتاجين، والتعالي على الآخرين، فالحذر من هدر النعم، وهنا يشاد بجهود جمعيات حفظ النعمة وإكرامها والحذر من هدرها، وينبغي التعاون معهم في حفظ النعمة ودوامها ولدوام النعم واستقرارها، وربوها في مقارها، عليكم بالشكر، فإنه مؤذن بالمزيد، وكفيل للنعم بالتقييد، ففي الكتاب المجيد: {لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم: 7]، وليكن منكم بحسبان، أن الشكر ليس بمجرد اللسان والجنان، بل بالجوارح والأركان، فيما يرضي المنان، قال سبحانه: {اعملوا آل داود شكرًا وقليل من عبادي الشكور} [سبأ: 13]. وفق الله الجميع للعمل الصالح الرشيد، وسلك بنا سبل التقوى والتسديد، وأدام علينا العيش البهي الرغيد.
وشدد إمام المسجد الحرام أن من اللهج بشكر نعم الله سبحانه ما منّ به على بلاد الحرمين الشريفين -حرسها المولى تعالى- من النعم الغامرة، والآلاء الهامرة، من دعوة إصلاحية رائدة، وجماعة شرعية واحدة، على منهج الكتاب والسنة، منذ يوم التأسيس، وما شهده هذا الوطن الفياض بالبذل والعطاء، من نهضات تنموية في شتى المجالات من خلال رؤية مستقبلية طموحة.
ودعا الله تعالى أن يديم علينا وعلى بلادنا وسائر بلاد المسلمين سوابغ نعمتك التي لا تعد، ونوابغ قسمك التي تجاوزت الحد، ولا عزاء لخونة الدين والأوطان، ودعاة الفتنة من المارقين الذين لا للإسلام نصروا، ولا للكفر كسروا.
وأشار إلى أن من نعم الله ما نعيشه من مواسم العام المعهودة، وما يفيض فيها الرحمن من فضله وجوده، ومنها شهر شعبان، فاعمروه بالقربات والصالحات والإحسان، وبادروا إلى صيام بعض أيامه متعرضين لكرم الله المعطي المنان، وصوم أكثره هدي خير الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام، واجبروا أعمالكم فيه بالتوبة والاستغفار لمحو الآثام والأوزار، وليس لبعض لياليه مزية على غيرها، على قول المحققين من أهل العلم، واستعدوا -وفقكم الله- لأداء أجل منة، وأجن جنة، فريضة الصيام، فالشهر الكريم والضيف العظيم على المشارف والأبواب، اللهم بلغنا شهر رمضان ووفقنا لقيامه وصيامه في صحة وعافية، ونعمة غير عافية.