يوم المعلم رمز الوفاء والعطاء
في الخامس من أكتوبر من كل عام يتجمل العالم بألوان الاحتفاء والوفاء؛ إذ يحتفل بيوم المعلم؛ ذلك الرسول النبيل الذي يذرع آفاق المعرفة في كل ركن من أركان المعمورة، وفي كل صرح علمي تتردد أصداء الشكر والتقدير لمن حملوا المشاعل ومهدوا الطريق وفتحوا مغاليق العقول، وأسهموا في بناء الأمم، وتحت شعار “نعرف اثرك” (تقدير اصوات المعلمين ، عقد اجتماعي جديد للتعليم) تتضافر الجهود لإبراز الدور المحوري للمعلم في صناعة المستقبل؛ وذلك انسجامًا مع توصيات اليونسكو الساعية إلى تعزيز مكانته وتقديره؛ ونحن أبناء المملكة أولى الناس بالاحتفال بيوم المعلم؛ كوننا نعيش في أرض الإسلام ومنبع الحضارة والعلم والتنوير، تقتضي رسالتنا ودورنا التاريخي أن نحمل مشاعل النور نبدد بها قلاع الظلام في كل مكان؛ ومن ثم فإن المعلم هو تاج الرؤوس، تكريمه منقبة، واحترامه فخر، والسعي بين يديه وفي خدمته هو الرفعة والنبل والتسامي.
إن يوم المعلم في المملكة العربية السعودية هو أكثر من مجرد يوم للاحتفال؛ إنه تعبير عن عمق التقدير والاحترام لأولئك السادة الأماجد أصحاب الفضل، وقد جاء شعار هذا العام “تقدير أصوات المعلمين.. عقد اجتماعي جديد للتعليم” يؤكد أهمية الاستماع إلى آراء المعلمين، وإشراكهم في صنع القرار، وبناء شراكة حقيقية بين جميع أطراف العملية التعليمية.
إن يوم المعلم مناسبة عالمية مشهودة، وموعد للاحتفاء والحفاوة بالجهود التي يبذلها المعلمون في بناء أجيال المستقبل، وتعزيز العلم والقيم، وتأصيل مبدأ التعليم بوصفه أداة تغيير محورية في المجتمع؛ إنه اليوم الذي يتذكر فيه الجميع فضل المعلمين في تشكيل شخصياتهم وصقل مهاراتهم وتوجيههم نحو النجاح، والأخذ بأيديهم إلى بر الأمان.
منذ نعومة أظفاري وحداثة أمري كنت دائمًا محاطًا بقصص العطاء التي تُروى عن التعليم، ليس فقط بسبب ما قدمه معلمو المدارس، بل لأنني نشأت في عائلة تربوية حقيقية؛ إذ كان والدي معلمًا على مدى خمسة وثلاثين عامًا، أبدع في إيصال رسالته بحب وإخلاص لا مثيل لهما، كان الحديث في المنزل دومًا عن التحديات التي يواجهها الطلاب، وطرق التواصل معهم، وكيفية غرس القيم إلى جانب المعرفة العلمية، لقد كان والدي مثالًا يُحتذى به في الانضباط والصبر، وقد أثر في حياتي بشكل كبير من خلال حبه للتعليم وإيمانه برسالته.
كما كان عمي -رحمه الله- معلمًا هو أيضًا، وكانت سيرته العطرة ظلت حية بين أفراد العائلة؛ فالجميع كانوا يتحدثون عن تأثيره الإيجابي في طلابه، وكيف كان يبذل جهدًا مضاعفًا لتوصيل المعلومات بطريقة مبدعة تربوية، ولم يكن يتوانى عن تقديم النصيحة والدعم خارج نطاق الفصل الدراسي وبعيدًا عن المنهاج المدرسي.
من خلال هذين النموذجين في عائلتي، أدركت مدى التأثير العميق الذي يتركه المعلم في طلابه، ليس فقط على مستوى التحصيل الأكاديمي، بل أيضًا على مستوى الشخصية والحياة؛ فكان من الطبيعي أن أُقدِّر هذه المهنة النبيلة وأتعلم منها قيمة العطاء دون مقابل؛ فالمعلم لا يكتفي بتعليم المعارف وتدريس العلوم، بل يسهم في بناء المجتمع كله.
الحديث عن المعلم لا يتوقف عند ذكر الفصول الدراسية أو النتائج الأكاديمية، بل يتعدى ذلك إلى الدور الذي يلعبه في بناء شخصية الطلاب وتوجيههم نحو طريق النجاح؛ فالمعلم ليس مجرد ناقل للمعرفة، بل هو موجه ومرشد يصقل المواهب وينمي العقول، وهو الشخص الذي يلاحظ نقاط القوة في طلابه ويساعدهم على تطويرها، ويتعامل مع نقاط الضعف بتفهم وصبر ويعمل على محوها وتغييرها؛ إنه الركيزة الأساسية في عملية التعليم، ومن دونه لا يمكن أن نصل إلى مجتمعات متقدمة ثقافيًّا وفكريًّا.
وبالحديث عن دور المعلم يجب أن نُذكّر أيضًا بأهمية الاعتراف بالجهود التي يبذلها؛ فمهنة التعليم تتطلب طاقة كبيرة ومهارات متعددة تتراوح بين القدرة على التواصل، وإيصال الأفكار بشكل مبسط، وتحفيز الطلاب على التفكير النقدي، وبرغم التحديات التي قد تواجه المعلمين؛ من ضغوط العمل… إلى التعامل مع طلاب من خلفيات متعددة وثقافات متنوعة، فإنهم يستمرون في تقديم أفضل ما لديهم من أجل مستقبل مشرق لطلابهم.
إذا نظرنا إلى المجتمع من منظور شامل، نجد أن المعلمين هم النواة التي تبني الأجيال؛ فكل طبيب، مهندس، كاتب… كان يومًا طالبًا في صف معلم غرس فيه حب التعلم والبحث، ولا يمكن أن ننسى دورهم في تشكيل القيم والأخلاق، فهم القدوة التي ينظر إليها الطلاب، وبالرغم من التطور التكنولوجي وظهور وسائل التعليم الحديثة، يبقى المعلم العنصر الأهم في عملية التعليم؛ فالتقنيات قد تسهل الوصول إلى المعلومة، لكنها لا تستطيع أن تحل محل التفاعل الإنساني للمعلم، ولا دوره التربوي، ولا حضوره الإرشادي.
في هذا اليوم المميز يجب علينا أن نوجه كلمات الشكر لكل معلم، ونعترف بتضحياتهم وصبرهم وجهودهم التي لا تقدر بثمن؛ فهم الجنود المجهولون الذين يعملون بصمت لإعداد قادة المستقبل ومفكريه، وعلينا أيضًا أن نتذكر أن دعم التعليم هو دعم للمستقبل، وأن الاستثمار في تحسين أحوال المعلمين وتوفير بيئة تعليمية محفزة يعني تحقيق تنمية حقيقية ومستدامة.
في النهاية يأتي دورنا بوصفنا أفرادًا في المجتمع لنسهم في تقدير دور المعلم والاعتراف بفضله؛ فكما علمنا المعلمون القراءة والكتابة، علمونا أيضًا كيف نكون أفضل على المستوى الإنساني؛ ومن ثم فإن الاحتفاء بهم في يومهم هو أقل ما يمكن أن نقدمه لهم تقديرًا لجهودهم المستمرة وعطائهم غير المحدود… وأخيرًا أقول: كل عام والمعلمون في كل مكان بألف خير.
كتبه: خالد بن هزيل الدبوس الشراري
باحث وكاتب ومؤلف