الأخبار المحلية

رقيم ودهاق أوطاننا العربية (1-3) في تونس: لا غرابةَ أن يُفلتَ منك الضوء، لا غرابةَ أن يسكنك الشعر!

لاَ نَدري كيف نبدأ الحديثَ عن تونس الخضراء، مُلْتقى الحضارات ومُلهمة الفنّانين والشعراء، هنا في غرّة شمال إفريقيا، تُجَاوِرُ مع البحر والجبال والصّحراء، مَنحت إفريقيا اسمَهَا القديم «إفريقية» سليلة «قرطاجة»، تكوّنت مزيجًا ثَرًّا من حضارة الفينيقيين القرطاجنيين. يا لبهجة العمر أيها الأعرابي وصلت قرطاج التي كان دستورها الأبرز في العالم القديم، وتنفست هواء المناطق والنواحي والمقاطعات بتونس التي أعطت من ألقها خيوط ضوء تساهِمُ في نسْج الحضارة الإنسانيّة، وترسُمُ ملامح ريادة حقيقيّة وهي التي كان لها السّبق عربيًّا وإسلاميًّا في تحرير الرقّ (1846م) وكتابة الدّستور (1861م) وتحرير المرأة (1956م). فيا لأنسك وأنت تجر رداءك قادمًا لتونس ابن خلدون وخير الدّين باشا وأبي القاسم الشابي ومحمود المسعدي..
غير أني سأذكر أنه بعدما عانقت القوم، وأطالوا الترحاب، استدركوا تعظيمًا وإجلالًا في وصف منجزهم الشعري الذي ورثوه وسيورثونه للأجيال بعدهم: دع في الحسبان يا أعرابي إبان إزماعك الاستهلال بنشر حراكنا الشعري أنه كان عسيرًا علينا الإحاطة بهذه العجالة، الإحاطة بمجاميع الحركة الشعريّة. حتى وإن خصصت الجزء الأول لذلك كله. لكنّ لعل (الموسوعة التونسيّة) ستسعفنا بهذه الرحلة الشيقة مع أعلام الشعر ومدارسه بمختلف رؤاه واتجاهاته, وبمختلف الحساسيات والأجيال وستقدّم لنا توصيفًا شاملاً دقيقًا، نستثمر بعضه, كما تستثمر من خلال أصوات الشعراء والشاعرات ما يعود على المتابع لصحيفتكم التي تُرقّن لها نفعًا وفودًا, من طوائب مشاهدات بلدان العرب, بعد أن تزجيه بفيض غير محتور, وتوشيه من الرصائع, وتفعم براجده بالنصع, فجعلت من هذا المُسدل الذي تجتهد بتحسينه وتزيينه, وتمد فرشه وبطائنه الوثيرة ووسائده الإستبرقية, في هذا المتكأ الفكري الحضاري والمنتدى الأدبي الفني والثقافي «المجلة الثقافية» الذي تولمونه من وقدٍ توقدون مشاعيله من المحيط إلى الخليج على نواصي أطراف أصابع عربية بديعة, تتشابه كتوائم من الشموع البيضاء..
ثم ألا فلتعلم يا رعتك القوافي التونسية ارعها يا أعرابي, كما أنت اليوم مرعيُّ بأعيننا، ومكين بين من أوثقوا بالعروة وشدوها بالنّكل الغلاظ, وتمسكوا متدرعين بلأمة اللغة, ذوي المدية المحتدة, وهم قابضون على الفرندات الملتمعة, حين تنز وتبز للعلياء متصدرة طلائع الجموع بشموخ البسولة. ولتعلم أنهم حين أدلوا بواردهم إنما ليغترف من البئر التي حفروها في نهاية القرن التاسع عشر, هذه البئر الثجاجة التي انفجت وانبجست عنها أرض تونس ورباها, ومازها من سلسبيل العذوبة أن أصبح وأمسى شاربها يجري كما تجري وتدفق القوافي والأوزان على أرض الخضراء. إنك هنا يا أعرابي إلى جانب الشعر التقليدي الذي لم يبرح المواصفات الإيقاعية للقصيدة التراثية وأغراضها من مدح ورثاء وغزل، ومن وصف للطبيعة والإخوانيات, وما تمخض الفكر الإصلاحي الذي انطلق في عهد المشير أحمد باشا إلا ليعلن ميلاد لون جديد من الشعر، انفتح على قضايا العصر. ولعلك سمعت صوت أول من كتب عن هذه القضايا «الشاعر محمود قابادو»، وأصوات كل من انبثق بعد تجربته في أواخر القرن نفسه, الحركة التي عرفت بـ (الشعر العصري) التي امتد حضورها حتى العقد الثالث من القرن العشرين. وكان من أبرز أعلامها المؤسسين محمد السنوسي وصالح السويسي القيرواني ومحمد النيفر وحسن المزوغي.. وكل من دعت حركتهم الشعرية لهجر أغراض الشعر العربي القديم، وفتح القصيدة على قضايا العصر وتوظيفها في تصوير مظاهر التقدم التي أفرزتها الحضارة الغربية الحديثة.
هل تريد يا ابن الجزيرة أن نسوح بك أطول, ونجول بك أبعد, في راعدة وبارقة يختلج ويختلط هطل أبياتها، وتمتزج قوافيها المتجددة على أرض الحديقة الخضراء المسكونة بالشعراء التونسيين. هذه الأرض التي شكلت أعظم خرائط الشعر العربي وجغرفته تجديدًا. هل تريد أن نطلعك على أهم محطة في مسيرة الشعر التونسي طيلة هذه الفترة؟ قف إذًا وأنخ «رَحُولك» بجوار ذلك التمثال في «توزر»، هذه الولاية ولد ونقل جثمان شاعر إليها بعد إصابته بمرض «القلاب»، سنوقد نارنا في هذا البطين لأنه يتسع لقلوبنا, ونمد نظرنا للتاريخ القريب المتصرم ونسك فجاج من ذاكرة الشعر الممتدة, سنطيل الحديث معك, فاستنشق عبق التاريخ، وهو مزمل برداء قصيدة مكتملة الأنوثة, حين تتجلى وتتثنى ليمتد ويرتد صداها من الجيل السالف للخالف, قصيدة فحلة تليق بفحولة الشعراء التونسيين. لن نطيل عليك التقريظ يا أعرابي, هي بلا منازع تجربة أبي القاسم الشابي؛ إذ لا يمكن بأي حال مقارنتها من جهتي العمق ودرجة الاكتمال الفني بما أنشأه أي من الشعراء السابقين أو المعاصرين له. فصوت هذا الشاعر بمنزلة الصرخة المدوية التي ارتجت لها أركان الوسط الثقافي التونسي بأسره، وامتد صداها حتى المشرق العربي. وإننا لا نُخالك يا أعرابي سوى أحد من يرددون خالدته التي يحفظها سائر أشراف العرب:
إذا الشـــعبُ يومًــا أراد الحيــاة
فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ
ولا بــــدَّ لليـــل أن ينجـــلي
ولا بــــدّ للقيـــد أن ينكســـرْ
ومــن لــم يعانقْـه شـوْقُ الحيـاة
تبخَّـــرَ فــي جوِّهــا واندثــرْ
فــويل لمــن لــم تَشُــقهُ الحيـاة
مــن صفْعــة العــدَم المنتصـرْ
كـــذلك قــالت لــيَ الكائنــاتُ
وحـــدثني روحُهـــا المســـتترْ

الأخبار المحلية

رقيم ودهاق أوطاننا العربية (1-3) في تونس: لا غرابةَ أن يُفلتَ منك الضوء، لا غرابةَ أن يسكنك الشعر!

لاَ نَدري كيف نبدأ الحديثَ عن تونس الخضراء، مُلْتقى الحضارات ومُلهمة الفنّانين والشعراء، هنا في غرّة شمال إفريقيا، تُجَاوِرُ مع البحر والجبال والصّحراء، مَنحت إفريقيا اسمَهَا القديم «إفريقية» سليلة «قرطاجة»، تكوّنت مزيجًا ثَرًّا من حضارة الفينيقيين القرطاجنيين. يا لبهجة العمر أيها الأعرابي وصلت قرطاج التي كان دستورها الأبرز في العالم القديم، وتنفست هواء المناطق والنواحي والمقاطعات بتونس التي أعطت من ألقها خيوط ضوء تساهِمُ في نسْج الحضارة الإنسانيّة، وترسُمُ ملامح ريادة حقيقيّة وهي التي كان لها السّبق عربيًّا وإسلاميًّا في تحرير الرقّ (1846م) وكتابة الدّستور (1861م) وتحرير المرأة (1956م). فيا لأنسك وأنت تجر رداءك قادمًا لتونس ابن خلدون وخير الدّين باشا وأبي القاسم الشابي ومحمود المسعدي..
غير أني سأذكر أنه بعدما عانقت القوم، وأطالوا الترحاب، استدركوا تعظيمًا وإجلالًا في وصف منجزهم الشعري الذي ورثوه وسيورثونه للأجيال بعدهم: دع في الحسبان يا أعرابي إبان إزماعك الاستهلال بنشر حراكنا الشعري أنه كان عسيرًا علينا الإحاطة بهذه العجالة، الإحاطة بمجاميع الحركة الشعريّة. حتى وإن خصصت الجزء الأول لذلك كله. لكنّ لعل (الموسوعة التونسيّة) ستسعفنا بهذه الرحلة الشيقة مع أعلام الشعر ومدارسه بمختلف رؤاه واتجاهاته, وبمختلف الحساسيات والأجيال وستقدّم لنا توصيفًا شاملاً دقيقًا، نستثمر بعضه, كما تستثمر من خلال أصوات الشعراء والشاعرات ما يعود على المتابع لصحيفتكم التي تُرقّن لها نفعًا وفودًا, من طوائب مشاهدات بلدان العرب, بعد أن تزجيه بفيض غير محتور, وتوشيه من الرصائع, وتفعم براجده بالنصع, فجعلت من هذا المُسدل الذي تجتهد بتحسينه وتزيينه, وتمد فرشه وبطائنه الوثيرة ووسائده الإستبرقية, في هذا المتكأ الفكري الحضاري والمنتدى الأدبي الفني والثقافي «المجلة الثقافية» الذي تولمونه من وقدٍ توقدون مشاعيله من المحيط إلى الخليج على نواصي أطراف أصابع عربية بديعة, تتشابه كتوائم من الشموع البيضاء..
ثم ألا فلتعلم يا رعتك القوافي التونسية ارعها يا أعرابي, كما أنت اليوم مرعيُّ بأعيننا، ومكين بين من أوثقوا بالعروة وشدوها بالنّكل الغلاظ, وتمسكوا متدرعين بلأمة اللغة, ذوي المدية المحتدة, وهم قابضون على الفرندات الملتمعة, حين تنز وتبز للعلياء متصدرة طلائع الجموع بشموخ البسولة. ولتعلم أنهم حين أدلوا بواردهم إنما ليغترف من البئر التي حفروها في نهاية القرن التاسع عشر, هذه البئر الثجاجة التي انفجت وانبجست عنها أرض تونس ورباها, ومازها من سلسبيل العذوبة أن أصبح وأمسى شاربها يجري كما تجري وتدفق القوافي والأوزان على أرض الخضراء. إنك هنا يا أعرابي إلى جانب الشعر التقليدي الذي لم يبرح المواصفات الإيقاعية للقصيدة التراثية وأغراضها من مدح ورثاء وغزل، ومن وصف للطبيعة والإخوانيات, وما تمخض الفكر الإصلاحي الذي انطلق في عهد المشير أحمد باشا إلا ليعلن ميلاد لون جديد من الشعر، انفتح على قضايا العصر. ولعلك سمعت صوت أول من كتب عن هذه القضايا «الشاعر محمود قابادو»، وأصوات كل من انبثق بعد تجربته في أواخر القرن نفسه, الحركة التي عرفت بـ (الشعر العصري) التي امتد حضورها حتى العقد الثالث من القرن العشرين. وكان من أبرز أعلامها المؤسسين محمد السنوسي وصالح السويسي القيرواني ومحمد النيفر وحسن المزوغي.. وكل من دعت حركتهم الشعرية لهجر أغراض الشعر العربي القديم، وفتح القصيدة على قضايا العصر وتوظيفها في تصوير مظاهر التقدم التي أفرزتها الحضارة الغربية الحديثة.
هل تريد يا ابن الجزيرة أن نسوح بك أطول, ونجول بك أبعد, في راعدة وبارقة يختلج ويختلط هطل أبياتها، وتمتزج قوافيها المتجددة على أرض الحديقة الخضراء المسكونة بالشعراء التونسيين. هذه الأرض التي شكلت أعظم خرائط الشعر العربي وجغرفته تجديدًا. هل تريد أن نطلعك على أهم محطة في مسيرة الشعر التونسي طيلة هذه الفترة؟ قف إذًا وأنخ «رَحُولك» بجوار ذلك التمثال في «توزر»، هذه الولاية ولد ونقل جثمان شاعر إليها بعد إصابته بمرض «القلاب»، سنوقد نارنا في هذا البطين لأنه يتسع لقلوبنا, ونمد نظرنا للتاريخ القريب المتصرم ونسك فجاج من ذاكرة الشعر الممتدة, سنطيل الحديث معك, فاستنشق عبق التاريخ، وهو مزمل برداء قصيدة مكتملة الأنوثة, حين تتجلى وتتثنى ليمتد ويرتد صداها من الجيل السالف للخالف, قصيدة فحلة تليق بفحولة الشعراء التونسيين. لن نطيل عليك التقريظ يا أعرابي, هي بلا منازع تجربة أبي القاسم الشابي؛ إذ لا يمكن بأي حال مقارنتها من جهتي العمق ودرجة الاكتمال الفني بما أنشأه أي من الشعراء السابقين أو المعاصرين له. فصوت هذا الشاعر بمنزلة الصرخة المدوية التي ارتجت لها أركان الوسط الثقافي التونسي بأسره، وامتد صداها حتى المشرق العربي. وإننا لا نُخالك يا أعرابي سوى أحد من يرددون خالدته التي يحفظها سائر أشراف العرب:
إذا الشـــعبُ يومًــا أراد الحيــاة
فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ
ولا بــــدَّ لليـــل أن ينجـــلي
ولا بــــدّ للقيـــد أن ينكســـرْ
ومــن لــم يعانقْـه شـوْقُ الحيـاة
تبخَّـــرَ فــي جوِّهــا واندثــرْ
فــويل لمــن لــم تَشُــقهُ الحيـاة
مــن صفْعــة العــدَم المنتصـرْ
كـــذلك قــالت لــيَ الكائنــاتُ
وحـــدثني روحُهـــا المســـتترْ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *